عمرو منير دهب يكتب: هكذا تقرؤونني
nasdahab@gmail.com
يـُـتــّـهم الشاعر حين يمارس النقد بأنه يحاول إضفاء الشرعية الأدبية على شعره، والمخرج الذي يشرح ما أراده من الفيلم مجملاً أو من إحدى دلالاته الرمزية في التصوير – مثلاً – يـُـرمى عملُه الفني بالفشل لأنه لم يستطع أن يُفصح عن نفسه للجمهور والنقاد فاستدعى تدخُّلَ صانعه لفك طلاسم معضلته الفنية.
انطلى عليّ الافتراض السابق حيناً من الزمان إلى درجة أنني لم أكن أبادر إلى الدفاع عن نقد يُوجـّـه إلى عمل كتبته تاركاً المهمة لآخرين من العامة والخاصة من متابعين لن ينشط معظمهم للأمر بالضرورة، وبعضهم إنْ نشط لا يفعل كما أمنـــّــي نفسي، وليس من واجباته عليّ ولا من حقوق النقد عليه أن يفعل ذلك بطبيعة الحال. الحق أن الأمر قد استغرقني طويلاً قبل أن أقرّر الثورة على افتراض لا يملك من الحجج ما يرقى به إلى ذرى القواعد البديهية كما يفترض مروّجوه.
حديث المخرج عن فيلمه أو الشاعر عن شعره لا يمكن أن يــُـقاس بما يفعله رئيس طهاة يخرج إلى ردهة المطعم محاولاً إقناع مرتادين لم يعجبهم الطعام بسرّ الخلطة. العمل الفني ليس وجبة دسمة أو قطعة من الحلوى ينتهي أمر الحكم عليها إلى ذائقة حسية لا تعنيها تفاصيل مهارات إعداد الطعام قدرَ ما تعنيها النتيجة الأخيرة التي تفضي إلى التعليق على الوجبة المقدّمة بما لا يجاوز الحُكمين: يعجبني ولا يعجبني.
لقراءة القطعة الفنية مداخل كثيرة، والمبدع مهما يدّعِ خضوعــَـه لسلطة الإلهام ويتبرّأ من كل فعل واعٍ أثناء العملية الإبداعية فإن مقاصده من العمل الذي أبدعه لا تخفى عليه، وعلى هذا الصعيد فإن العرب محقون فيما قالوه قديماً من أن المعنى في بطن الشاعر، ما يعني أن الشاعر أدرى بمراميه من القصيدة، وإن تكن مهمة الناقد أكبر من ذلك، فهي لا تُعنى في النهاية بمبتغى الشاعر من القصيدة قدرَ ما تُعنى بالطريق التي سلكها إلى الإفصاح عن ذلك المبتغى. من هنا تحديداً تبرز شرعية إدلاء الشاعر – والمبدع عموماً – دلوه في نقد ما يكتب، فلا شرط لانخراط المبدع في نقد إبداعه فوق ما يلزم أي ناقد يعرض لذلك الإبداع من شروط الإلمام بأصول النقد ومن قبل التحلّي بموهبة الحس النقدي.
بل إن المبدع أكثر تحرّراً من تلك الشروط مع عمله على اعتبار أنه أدرى بما في بطنه من مقاصد القطعة المبدَعة مما يـُـعـدّ الإفصاحُ عنه إضافة تضيء جوانب على طريق نقد العمل الفني حتى إذا كان المبدع أقلّ دراية من غيره من النقاد المحنكين بالضرب في دهاليز العملية النقدية أصولاً ومناهج.
غير أن المبدع الذي ينخرط بشكل أو آخر في نقد نفسه يخاطر بتقديم شكل واحد لقراءته فيقطع بذلك الطريق على الآخرين للنفاذ إلى إبداعه من مداخل أخرى، أو هو – في فرض أقلّ خطورة – يضع العراقيل أمام ما يهمّ الآخرون باتخاذه من طرائق مغايرة لقراءة إبداعه. تلك فكرة لا تخلو من الوجاهة وتصدق بأقدار متراوحة على كل عمل فني يخضع لمبضع مبدعه نقداً، وعليه فإن الأولى بناقدِ نفسِه من المبدعين أن يقدّم نفسه ناقداً مستقلاً لعمله كغيره من النقاد لا بوصفه حائزاً على أفضلية الشاعر الذي يحتفظ في بطنه بالمعنى الواحد الصحيح للقصيدة.
المبدعون كالحسناوات، منهم من يفتنك إبداعه من النظرة الأولى ومنهم دون ذلك ممن يحتاج الوقوف على “جمال” إبداعه معاودة النظر مرة أو مرّات، ومنهم من تدرك جمال إبداعه من النظرة الأولى دون أن يبلغ بك الحال مع ذلك الجمال حدّ الافتتان.
لأنني ممن يؤمنون بأن انبراء المبدعين لأعمالهم بالنقد لا يفسد قضية لقيمة تلك الأعمال الفنية ما دام ذلك الانبراء عن دراية ومهارة، وإذ لا أجرؤ على الادّعاء بأنني من طائفة المبدعين الذين يفتنون قرّاءهم من النظرة الأولى، أو حتى بمعاودة النظر، فإنني أكاد أستجيب لهاتف يطرقني مع كل عمل أنجزه ملحّاً علىّ أن أرفق مع ذلك العمل “كتالوجاً” يرشد القارئ إلى الطريقة المثلى لقراءة العمل والانتفاع به ويحذّر في الوقت ذاته من الطرق السيئة لاستعمال القطعة الأدبية.