عمرو منير دهب يكتب: موضة الموضة
nasdahab@gmail.com
أشرنا في “غرفة نومك في العولمة” إلى كتاب Civilization: The West and the Rest، وذلك نقلاً عن الترجمة العربية للكتاب التي صدرت تحت عنوان: “الحضارة: كيف هيمنت حضارة الغرب على الغرب والشرق؟”، والكتاب لنيال فيرغسون بروفيسور التاريخ في جامعة هارفارد وغيرها من كبريات الجامعات ومؤسسات الأبحاث في الغرب. كتاب فيرغسون هذا مشوِّق لمن يهتمّ بموضوعه وأقرب إلى أن يكون موسوعياً في بابه، وما أود التقاطه هنا من الكتاب ما أورده المؤلف في سياق بحثه عن تطور الحياة الاقتصادية والنزعة الاستهلاكية في ما يتعلق بالملابس، حيث أشار في معرض حديثه عن الموضوع إلى فترة بعينها أصبح بإمكان المرء خلالها أن يمتلك قميصين، وذلك في ما يمكن عدّه بدايةً لرفاهية من قبيل ما، بل رفاهية واضحة نسبةً إلى ما سبق حيث كان الحال (كما يسهل الاستنباط بقياس بسيط) يقضي بأن يبقى المرء منتظراً عاريَ الصدر ريثما يجف قميصه الوحيد بعد غسله، وذلك عقب فترة طويلة من تحمّل الاتّساخ (ما يسهل استنباطه بقياس بسيط آخر).
الإشارة أعلاه فيما يتعلق بامتلاك قميصين كانت مرتبطة بالعامل/المواطن العادي وليست بالمنتمين إلى أيٍّ من النخب المخملية أو الطبقات الموسرة بطبيعة الحال، وعليه فإنها كانت رفاهية نسبية كما سبق التأكيد منذ قليل. من أجل هذا لا يمكن حساب تلك النقلة بوصفها بداية اهتمام الإنسان بمفهوم الأزياء من حيث فكرة الموضة الدالة على الرفاهية بوضوح قياساً إلى الغرض الأساس من الملابس متجسداً في ستر العورة ليس إلا.
وحيث لا يمكن الفرار من الإقرار بمفهوم الطبقية كواقع متجسِّد منذ فجر تاريخ المجتمعات البشرية، بل متجسِّد في ذروته مع ذلك الفجر الإنساني غير المشرق من وجهة نظر حقوق الإنسان الصرفة في الغالب، فإن الراجح أن موضة الأزياء قد تم اختراعها في فترة سابقة بكثير لقصة امتلاك أيٍّ من العامة قميصين، وهو ما أشار إليه البروفيسور فيرغسون بوصفه إيماءة لبحبوحة استهلاكية من قبيلٍ ما مع بدايات النهضة الصناعية على ما أذكر من موضع الاقتطاف السابق. أما حظ النخب المخملية من الحكام وكبار الموظفين في بلاطهم – على سبيل المثال – من امتلاك القمصان أشكالاً وألواناً فقد سبق ذلك العهد بما يرتدّ إلى فجر حضارة المجتمعات البشرية المذكور منذ برهة. وباستعارة تعبيرين ماركسيين صميمين فإن حظ الطبقة البرجوازية من القمصان ظلّ بلا حساب مقابل البروليتاريا المعنية بإشارة نيال فيرغسون الخاصة بامتلاك المرء قميصين كأحد أشكال النزعات الاستهلاكية المتأرجحة بين الضرورة والرفاهية في مرحلة يصح وصفها بالانتقالية، وذلك قبل أن يدخل اختلافُ الألوان – وليس عدد القمصان فحسب – من باب الضرورة في النظر إلى ما يحتاجه الإنسان لستر العورة (أو للتفنّن في تعريتها كما سيغدو الحال بالإيغال ترفاً لا ريب في استيعاب مفهوم موضة الأزياء لاحقاً).
بموازاة تعدّد الألوان تبقى الإشارة الدالة عموماً على رفاهية امتلاك الملابس هي انتقاء ما يناسب المرء من القصّات والأشكال المطبوعة، وذلك بعد أن كانت ضرورة امتلاك الملابس تكمن في أمرين: الأول هو الحصول على قطعة تستر الجسد، والثاني أن تكون القطعة الساترة على مقاس الجسد قدر المستطاع، فالأرجح أن تفاصيل القياس الدقيقة بالأرقام وفق المرجعيات الجغرافية (المستندة بدورها إلى مرجعيات عرقية تحكم طبيعةَ الأجسام) لم تكن شائعة كما هو الآن، وربما كان قصارى ما يحلم به الواحد هو أن يتسربل بما يقع بين يديه كيفما اتفق، أو أن قياس الأزياء ابتدأ بفئات عامة تتراوح بين الصغير والمتوسط والكبير كما لا يزال متاحاً إلى اليوم، وربما كانت البدايات أكثر رحابة في الأفق تبنِّياً لفكرة المقاس الحر Free size الذي يسع الجميع تقريباً. وإذا صحّ التخمين الأخير، فإنه إشارة مؤكّدة لما أعنيه تحديداً بمفهوم الموضة من حيث كونه تداولاً دائرياً لأنماط العيش وللأفكار على نقيض ما نتوهّم من أنه مسيرة مطّردة إلى الأمام.
مهما يكن من أمر بداياتها، فإن ما انتهت إليه الأزياء بات الأكثر دلالة على فكرة الموضة، فالكلمة الأخيرة تكاد تنحصر في أذهان الناس داخل إطار عروض الأزياء ولا تبارحها إلّا إلى إطار الطلّة الأكثر شمولاً بما يستوعب شكل المرء نفسه، والتغييرات في أشكالنا كانت بالأمس مقتصرة تقريباً على قصّات الشعر حتى دخلت موضة عمليات التجميل فشملت نفخ الشفاه ونحت الأنف وقص المعدة.
ولكن عالم الأزياء لا يزال الأكثر جسارة في مواجهة الموضة عندما تتعلق المسألة بالمفهوم مجرداً ودافعه الأساس، فلا سبب للتجديد أعمق من الملل الذي هو أبو الموضة، مثلما أن الحاجة هي أم الاختراع.