تقارير

عمرو منير دهب يكتب: موضة العولمة

nasdahab@gmail.com

هل من شكّ في أن العولمة موضة؟ سواءٌ أكان المقصود بالصيغة الاستنكارية للسؤال أن العالم لا بد من أن يغيِّر أشكالَ التواصل الحالي التي يراها الناس تجاوزت الخيال أو أنه سينقلب على عقبيه ويعود إلى سيرة قديمة من الانغلاق.

العولمة باتت نمط حياة، لذا يصعب قياسها على صعيد الموضة بصرعة في الأزياء أو حتى موجة من النظريات النقدية الأدبية على نحو ما رأينا في أكثر من مقام مضى، ولكن هناك من التنبؤات التي ترتدي مسوح النظريات الأكاديمية بالغة الجدية ما قدّمتْ نفسها على أنها الكلمة الأخيرة في تفسير الوجود ثم أثبتت سنواتٌ قليلة تلت طرح النظرية/النبوءة أنها ليست سوى موضة من طراز رفيع المقام عاشت أيامها محاطة باحتفاء علمي مهيب وضجيج إعلامي صاخب ثم كادت تندثر تماماً لولا ما بقي من آثارها الفكرية والنفسية الطنّانة التي لا مناص من الاعتراف بكونها ظلت أحياناً قابلة للإلهام لأمد من الدهر.

“نهاية التاريخ والإنسان الأخير” لفرانسيس فوكوياما ثم “صدام/صراع الحضارات” لصامويل هنتنقتون أشهر مثالين/كتابين/نظريتين/نبوءتين متتاليتين في السياق نفسه حديثاً بما يبرِّر بارتياح شديد وصفَ كلٍّ منهما بالموضة التنظيرية. ربما لم يتحمّل هنتنقتون النجاح المدوّي لتلميذه فوكوياما فردّ على الفور (بمقالة ضخّمها لاحقاً إلى كتاب، كما كانت سيرة “نهاية التاريخ” أيضاً) بنيّة تحطيم النظرية الموضة لتلميذه وهو يعلم أن ذلك غير ممكن سوى بنظرية مضادة (أو مصححة وفق نظرته) تمتلك من القدرة على إثارة الضجيج الفكري والإعلامي ما يؤهلها لأن تكون موضة تبقى بدورها في الأسواق الفكرية والاجتماعية والإعلامية متسيّدة لأمد بحسب حظها من توافر البدائل لدى أساتذة أجلاء أو تلاميذ نجباء، غيورين في الحالين.

إذا أمكن تعريف الموضة على أنها كل ما هو مادي ومعنوي مما يتخلل حياة الناس لفترة ثم يتغير/يتحوّر إلى صورة أخرى مشابهة أو مختلفة بدرجة ما، فإنه ليس ثمة ما يمنع أن تكون العولمة – وفق هذا التعريف الرحب – موضة بامتياز، فالعولمة منذ طرحت نفسها بين النخبة وحتى شيوعها بين الناس كالنار في الهشيم لا تزال تتغير، سواءٌ في تعريف المراد منها أو في تجلياتها المتجددة التي تعصف بأي تعريف مسبّق كان متفقاً عليه.

في “ما هي العولمة؟”، النسخة العربية للكتاب الألماني عن منشورات الجمل من ترجمة الدكتور أبو العيد دودو، يقول أولريش بك: “يقدم كيفين روبينس Kevin Rubins مثلاً البرهان على أن لتطور السوق العالمية نتائج عميقة بالنسبة إلى الثقافات والهويات وأساليب الحياة. عولمة العمل الاقتصادي تصاحبها أمواج من التحولات الثقافية، وهي قضية يمكن أن نطلق عليها اسم العولمة الثقافية. والأمر في ذلك يتعلق بالتأكيد وبشكل مركزي بإنتاج الرموز الثقافية وتلك قضية تمت ملاحظتها حقاً منذ مدة طويلة. فقد تكونت لدى قسم من علم الاجتماع وكذلك لدى الرأي العام نظرة في هذا المجال يمكن للإنسان أن يجعل منها أطروحة تقارب الثقافة الشمولية. تشهد على ذلك جملة إعطاء الصبغة الماكدونالدية للعالم. وبعد ذلك يكون النجاح أكثر فأكثر من نصيب تعميم يتضمن معنى توحيد أساليب الحياة والرموز الثقافية وطرق السلوك العابرة للحدود”.

مضمون الفقرة المقتطفة أعلاه شائع في وصف (ذم؟) العولمة، لكن المراد في هذا المقام هو الالتفات إلى الكلمات/التعابير التي تفيد عملية الاستحداث/التحوّل/التغيّر/التحوير مثل: “تطور السوق العالمية”، “أمواج من التحولات الثقافية”، “إنتاج الرموز الثقافية”، “تكونت لدى قسم من علم الاجتماع وكذلك لدى الرأي العام نظرة في هذا المجال”، “إعطاء الصبغة الماكدونالدية للعالم”، وغير ذلك مما يصعب حصره سواءٌ في الكتاب أو في غيره من مقامات قراءة العولمة. كل ذلك لا يؤكد شيئاً مثل أن العولمة موضة مستحدثة ينطبق عليها ما ينطبق على أية موضة في الحياة التي هي في جملتها مجموعة متراكمة/متعاقبة/متقلِّبة من الموضات على مختلف الأصعدة.

وإذا كان كتاب “انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم”، الذي عرضنا له من قبل، يومئ منذ عنوانه إلى “موضة العولمة” بنصه الصريح والمباشر على انهيارها (إذا صحّ أنها عاشت لردح من الزمان كما أمّل مخترعوها ومروِّجوها)، فإن داخِلَ الكتاب الكثيرَ من الشواهد الداعمة للفكرة ذاتها بتفصيل أكبر ونفاذ أعمق إلى المضمون الذي نحن بصدده. يورِد المؤلف جون رالستون سول في آخر فصل تحت عنوان “الأمر المسكوت عنه” ما يلي: “وقد كان الفيلسوف الفرنسي توكفيل هو الذي تساءل في عام 1835: هل يمكن أن نصدق أن الديموقراطية التي أطاحت بالنظام الإقطاعي وأودت بسيطرة الملوك سوف تتراجع أمام التجار والرأسماليين؟”، كان الفيلسوف الفرنسي حينها يتحدث عمّا يمكن تسميته “موضة الديموقراطية”، وهو القياس الذي التقطه سول بذكاء لينطلق مكملاً عن العولمة: “وها نحن اليوم نشهد التراجع المكافئ أمام تكنوقراط القطاع الخاص والاختصاصيين بأسواق النقد والمدرسة المهيمنة من الاقتصاديين، ويضاف إلى ذلك بطبيعة الحال أولئك الكتاب والمعلقون، الذين لا يناسبهم سوى دور الحاشية التي تتصرف داخل البلاط بقدر متفانٍ من الإخلاص”.

وفي فصل بعنوان “نهاية المعتقد” يقول سول: “وهذا لا يعني أن الاقتصاد العالمي قد وصل إلى نهايته، ولكن يعني أن نموذج العولمة الذي كان معتمداً في السبعينيات والثمانينيات قد انكمش وآل إلى الذبول، وهو الآن في أفضل الأحوال مشروع لإقليم ما، وهذا الإقليم هو الغرب. ومع ذلك، ففي الغرب نفسه تظل الخطوات نحو إعادة التنظيم والعودة إلى الروح القومية هي التي تدفع القوميات القديمة، وعددها 20 أو نحوها إلى اتجاهات غير متوقعة تماماً. ويمكن القول بأن القومية الأمريكية هي القوة الأساسية في تقويض مشروع العولمة القديم”. مجدداً، وأكثر من كونها إشارات إلى ما يريده الكتاب بانهيار العولمة، فإن القراءة المحايدة للكلمات/التعابير التالية لا تفعل شيئاً أفضل من تأكيد الفكرة الأكبر لمنظورنا في هذا المقام متمثلة في كون العولمة موضة: “وصل إلى نهايته”، “انكمش وآل إلى الذبول”، “وهو الآن”، “إعادة التنظيم والعودة إلى الروح القومية”، “تقويض مشروع العولمة القديم”، وأيضاً الكثير مما يفوق الحصر في مقام عاجل عبر الفصل المشار إليه في الكتاب.

في الجزء الأخير من الكتاب، وتحت عنوان “وأين نذهب الآن؟”، يبدو جون رالستون سول وكأنه يشير تحديداً إلى المراد من “موضة العولمة” – كما ظللنا نعرض لها – أكثر من كونه يقدِّم الأدلة على انهيار العولمة: “على أن التحدي الماثل اليوم يتسم بالتعقيد والأهمية في آن معاً. وقد لا نشهد حالياً نهاية فترة العولمة، ولكننا نشهد أيضاً نهاية الفترة العقلانية الغربية، بكل إصرارها على التمسك بوجود هياكل وحيدة الجانب جلية المعالم، بشأن الموضوع. وربما نعيش بدايات عملية شاملة لإعادة التوازن، بحيث تتصدرها جميع الثقافات الأخرى، طارحة قضايا أكثر تعقيداً، بشأن ما يمكن أن يشكِّل قوام مجتمع ما. والذين يعيشون منا في الغرب، سوف يتعين عليهم أن يتعلموا مجاراة وفهم ما يصنع تغييراً رئيسياً إيجابياً بالنسبة لنا”.

وعلى غير ما يقصد سول بصورة مباشرة، فإن النفاذ الأعمق إلى فكرة “موضة العولمة” (وليس انهيارها) يكمن في هذه الكلمات التي تلي المقتطف السابق: “ومن الأفكار التي ما برحت تتسع نطاقاً تلك التي تتعلق بخطواتنا، ونحن ندخل حقبة تكاد تشابه العصور الوسطى، وبالتحديد الجانب الإيجابي من العصور الوسطى، فهذه مرحلة لا تجعل طبيعة الحدود وتعريفات الشعوب واضحة أو شاملة”.

ذلك هو التعبير الأعمق عن أن العولمة موضة، فالموضة لا تعني التحرّك باستمرار إلى الأمام قدرَ ما تعني التغيير حتى إذا كان ارتداداً عنيفاً إلى ماض سحيق بصورة أو بأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى