عمرو منير دهب يكتب: مناهج البحث غير العلمي
nasdahab@gmail.com
سعادة البعض بإعلانه أن العمل الذي فرغ منه تقصّى كل نواحي موضوع البحث هي دون شك سعادة مستحقة لو أن العمل بالفعل كان كذلك، ولكن المسألة تشبه إلى حد بعيد ادّعاءً شهيراً على مستوى الثقافة العربية عموماً يجنح إلى تأكيد مثالية الدوافع والأهداف مع أي حديث يدلَى به على الملأ، حتى إن المتحدّث يكاد – أو هو حرفياً – يستحضر فور أن يُطلب إليه الحديث نموذجاً جاهزاً عن الحالة المثالية المفترضة مع المسألة التي هو بصددها، سواءٌ أكانت تلك المسألة عملاً أو سلوكاً أو حتى رأياً، ثم يشرع في سرد ذلك النموذج عن ظهر قلب وكأنه ما أُنجــِـز بالفعل من عمل أو سلوك أو رأي.
ولعل العلّة ليست فيمن يتهيّأ للإقرار بمثالية منـتـظــَـرة قدَر ما هي فيمن ينتظر تلك المثالية، ومن قبل في الثقافة التي شرّعت تلك الحالة المنتظرَة وسوّغتها مع كل فعل وسلوك ورأي يطمح أن ينزل منزلاً حسناً في نفوس الناس. المفارقة أن ذلك يسير جنباً إلى جنب في الثقافة ذاتها مع اعتذار شهير مفاده أن الكمال غير ممكن التحقيق، ولأن هذا المعنى مما هو معلوم من العمل بالضرورة فإن تكراره لا يفيد سوى استجداء الإقرار بالكمال في أقصى صوره الممكنة إنسانياً مع أي عمل دون أن يكون هذا الأخير قد استوفى الشروط الموجبة للإقرار بالكمال الإنساني، وكأن الكمال في هذه الحالة ليس سوى القبول ولكن بتعريف ثقافة تحب أن ترى كل شيء مثالياً حتى إذا كانت هـمّـتـها لا تسعفها إلى بلوغ ذلك المقام من الإتقان.
وقد نفترض أن عملاً لم يبلغ الغاية في بابه دون أن يكون قد انتاب ذلك العمل خللٌ سوى أننا تلقــّـيـنــاه على غير ما أراده صاحبه، على صورة مثالية مفترضة أو حتى متوهّمة.
لماذا نفترض أن باحثاُ ما يجب أن يتأبط مناهج البحث العملي وهو بسبيل الخوض في موضوع ما من وجهة نظر غير أكاديمية؟ الهالة المبجّلة التي يضفيها الأكاديميون على بحوثهم هالة مستحقة لا ريب، ولكن على البحوث الخلّاقة غير الأكاديمية هالة أخرى لا يراها الأكاديميون بصفة عامة، وإن كان يراها من الأكاديميين من له صلة بالكتابة المرسلة على عواهن الإبداع مطلقاً وليس المحصور منه داخل الصروح العلمية المنغلقة.
للأعمال الإبداعية البارزة، رواية أو شعراً أو مقالة، وفي غير الكتابة من ضروب الإبداع، دلالات وآثار تفوق في كثير من الأحيان ما للأعمال الأكاديمية الصرفة من آثار على قضية ما يتناولها الطرفان. وليس من تعارض، أو حتى تنافس، بين فريقين لكل منهما طرائق تناوله وتأثيراته المختلفة وإن تشابه أو اتــّحـد الموضوع المتناوَل والغاية المرتجاة، ولكن آفة النقد أن يُحاكــَـم عمل بمقاييس غيره من الأعمال فيُرتجى منه ما لم يزعمه ابتداءً.
حين تناولت بالبحث في كتبي وكتاباتي مواضيع فنية واجتماعية بعينها كنت أعمد أحياناً إلى إرشاد المتلقي كي لا ينخدع بما تكتسيه تلك الأعمال من صبغة رصينة فيتوهّم بحثاً يستند إلى مرجعية أكاديمية بعينها وليس في متن البحث أو بين حواشيه ما يرجّح ذلك، غير أنني عدلت عن هذا الصنيع لاحقاً تاركاً للمتلقي أن يقرأ ما أكتب كيف يشاء، فمن شأن الكتابة الناضجة (التي أرجو أن تنحشر في زمرتها أعمالي) أن ترشد القارئ من تلقاء نفسها إلى الطريقة المثلى لتلقـــِّـيها.
وكنت تحديداً مع كتاباتي عن الشخصية السودانية مسكوناً بهواجس القلق من سوء الفهم في موضوع محفوف بالشراك، خاصة حين يلج كاتب إلى هذا الحقل تتقدّمه جملة من التــُـهـم التقليدية المسبّقة أشهرها الإقامة خارج الوطن وأبـعـثــُهـا لسرور ناقد متحفـــِّـز مجافاتـــُـها للتقاليد والمناهج الأكاديمية الصرفة.
القول الشهير منذ القدم في نقد البلاغة يذهب إلى أن الحالة النفسية للشاعر أو الناثر هي ما يملي عليه الصورة التي تسكنه فيجهر بها، فالسكون المطبق قد يكون باعثاً على احتشاد النفس بمعاني الوحشة فيأتي المبدع من الصور البلاغية بما يدل على ذلك، أو يكون داعياً إلى الأنس بالسكينة فتشي الصورة بذلك الإحساس، والقارئ أو الناقد في تلقــِّـيه لمقالة أو كتاب إنما يصدر عن حالة نفسية وذهنية ليست بريئة تماماً مما قاله قدامى النقاد في حق مبدعي الصور البلاغية من الشعراء والناثرين، غير أن المتلقـــِّـي – وبخاصة الناقد المحترف – الذي يقبل على عمل ما بخلفية نفسية وذهنية متأثرة باتجاه بعينه يضيع على نفسه فرص الإفادة من قراءة العمل من وجوه عديدة أخرى ربما كانت أكثر ثراءً إذا هو أنكر المداخل الأخرى لقراءة العمل واكتفى بما ارتضاه لنفسه من المداخل اكتفاءً حصرياً.
الناقد الذي يُخضع عملاً لم يزعم أنه أكاديمي لشروط البحث العلمي الصرف لا يفعل أكثر من أن يضع لنفسه وعلى العمل قيوداً ليس من شأنها سوى أن تذهب بمتعة القراءة الحرّة لعمل حر، وإذا لم تــَجـد القراءة بدّاً من أن تتقـيّد ببعض قوانين النقد دون غيرها فالأغلب أنها ستقع في حرج ظاهر إذا كان العمل يصرّ على أن يقدّم نفسه حرّاً من كل قيد سوى ذائقة سليمة وفائدة يتسنى أن تقتنصها ذائقة بذلك الوصف.