عمرو منير دهب يكتب: كاريزما الكاتب

nasdahab@gmail.com

عندما نفشل في تحديد أسباب نجاح قائد أسطوري أو نبوغ خطيب مفوّه نعلّق فشلنا على حمّالة “الكاريزما”، فالقول بأن زيداً من القادة أو عَمْراً من الخطباء يتمتع بكاريزما عالية تجعله يأسر من حوله هو أشبه بأن نقول إن ذلك الرجل يخلب ألباب الناس لأنه يتمتع بالقدرة على خلْب ألباب الناس. ألا يدخل هذا في حكم تفسير الماء بالماء؟ القول بأن رجلاً ما يتمتــّـع بكاريزما عالية لا يخرج عنه كونه وصفاً لذلك الرجل وليس تفسيراً لأسباب نجاحه ونبوغه قائداً أو خطيباً أو غير ذلك.

كاريزما القائد والخطيب المستشهد بهما أعلاه معروفة، والمفترض بالقائد أو الخطيب ذوَي الكاريزما أن يأسرا الناس بمجرّد رؤية صورة أحدهما أو الاستماع إلى حديث الآخر، بل بمجرّد استدعاء تلك الصورة أو ذلك الحديث في غياب صاحبيهما.

ماذا إذن عن كاريزما الكاتب؟ لا تبدو تلك من ضروب الكاريزما المألوفة، ولكن استناداً إلى الفقرة السابقة فإن الكاتب صاحب الكاريزما هو ذلك الذي يأسر وجدان الناس حالَ قراءة كتاباته أو حالَ استدعاء تلك الكتابات إلى الخاطر.

ولكننا لا نحب أن نـُلقي حديثنا عن كاريزما الكاتب على عواهنه فنخلص إلى تفسير الماء بالماء، الأوْلى أن نبحث في الكُــتــّــاب الكاريزميّين كيف تكون سيرتهم، ولعل ذلك من بَعدُ يعين على تحديد أكثر دقة للمقصود بالقائد الكاريزمي والخطيب الكاريزمي.

أداة القائد الآسر الأوّلية هي هيئة مهيبة يقابلها لدى الخطيب المفوّه من الأدوات صوت جهوري مميز، ولكن ذلك لا يعني أن الصوت الفريد ليس مهماً للقائد الآسر ولا أن الهيئة المتميزة ليست ضرورية للخطيب الساحر، فالصوت والصورة أساسيان بالضرورة في صناعة القائد والخطيب الكاريزميّين ولكن ترتيب أهميتهما مع كل واحد معكوس قياساً إلى الآخر، بحيث تكون الأداة الأوّلـيّة لدى أحدهما ثانوية لدى الآخر والعكس بالعكس.

وإذا كان مهماً في الأداة الأولية أن تـتــّـسم بالقوة فإن الأداة الثانوية يكفيها أن تـتــّـسم بالتميّز، أي أن الصوت الجهوري ليس لزاماً للقائد الآسر الذي يكفيه صوت مميز، كما أن الطلّة المهيبة ليست من ضروريات الخطيب الساحر الذي يكفيه وجه مميز الملامح فحسب، لذلك لم يعب الزعيم المصري جمال عبد الناصر – وهو من هو في أصحاب الكاريزما من القادة كما تدل سيرته وأثره – أنه لم يكن جهير الصوت ما دام صوته رقيقاً حاداً بما كان يكفي لتمييزه.

ونحن نبحث في أدوات كل شخصية كاريزمية نتجاوز ما هو معلوم من فن الصنعة بالضرورة من أساس امتلاك الشخصية الكاريزمية لناصية مجالها من الوجهة الفنية البحتة، كمهارات القيادة عند القائد ومهارات الحديث عند الخطيب. وعليه فإن امتلاك الكاتب لناصية الكتابة من الوجهة الفنية الخالصة هو الأساس الذي سيقفز من فوقه إلى مرتبة أصحاب الكاريزما إذا امتلك أداتيها الأولية ثم الثانوية.

وعلى غير الحال مع أداتــَيْ القائد والخطيب الأوّليـّـتين من حيث أنهما لصيقتان بالأسس الفنية الصرفة لمجال كل منهما، فإن أداة الكاتب الأوّليـّـة في تحقيق الكاريزما بعيدة كل البعد عن الارتباط بأيٍّ من الأسس الفنية الصرفة – أو حتى المــُـخلَّـطة – للكتابة.

أداة الكاتب الكاريزمي الأولية فيما نزعم هي اسمه الذي ينبغي أن يكون موسيقياً قابلاً للحفظ – إلى غير نسية – من الوهلة الأولى التي تقع فيها عينا القارئ عليه، ولن نشتطَّ فنشترط أن يكون اسم الكاتب ثنائياً كما رأى الكاتب المصري أحمد بهاء الدين عندما سـُـئـل في برنامج تلفزيوني عن السبب في عدم وضعه اسم أبيه إلى جوار توقيعه (أحمد بهاء الدين اسم مركّب) فقال ما مفاده إن الأصل في تواقيع الـكـُـتــّـاب أنها ثنائية، ثم بــُـهت عندما ذكّره المذيع بعباس محمود العقاد المفكر المعروف الذي كان يوقع مقالاته وكتبه باسمه ثلاثيّاً.

الصورة تبدو العامل المشترك في أدوات الكارزميين، وموقعها لدى الكاتب الكاريزمي ثانوي لسبب بسيط هو أن الناس قد تعشق كاتباً كاريزميّاً – أو تبغضه – إلى حد الجنون دون أن تكون قد رأته، على غير الحال مع القائد (والخطيب إلى حدٍّ ما)، لكن صورة مميزة على أية حال مما يعين على تثبيت اسم الكاتب في الذاكرة وكاريزماه في الوجدان.

ينعى عبد الله علي إبراهيم على نفسه حظـَّها من اسمه الاعتيادي، حتى إنه تمنــّـى لو أن له حظاً في أسماء موسيقية لنفر من الزملاء والزميلات، ولعل الرجل مُحق في هذا، فمن لا يعرف قدر البروفيسور عبدالله كاتباً ويمرّ عليه في الصحف مرور الكرام لا يمكن أن يتذكر اسمه اليوم كما قرأه البارحة، فـ”عبدالله علي إبراهيم” – اسماً مجرداً – يمكن أن يضطرب في الذاكرة بعد يومين فيصبح “عبدالله إبراهيم علي” أو “علي عبدالله إبراهيم” أو حتى “محمد أحمد إبراهيم”.

Exit mobile version