تقارير

عمرو منير دهب يكتب: كاتب بوزن الكرتون

nasdahab@gmail.com

جناية الأدباء بعضِهم على بعض هي أحياناً أكبرُ مما يُرتكب في حقهم بقراءة نظرية المؤامرة وتـتـبُّع المؤامرة التي تحاك بالفعل. أن يقسِّم الأدباء أنفسهم إلى طبقات بحسب الإنجاز الأدبي قيمةً وكمّاً أمرٌ يبدو مفهوماً في الإطارين الفني والأخلاقي ضمن ما يتنادى به أهل كل صنعة، أما تقسيم الأنواع الأدبية إلى طبقات يعلو بعضها فوق بعض حتى يكتم الأول فيها أنفاس الأخير فهو الأمر غير المفهوم في الإطارين نفسيهما.

وكان المفكر المصري المعروف عباس العقاد يغضب حين لا يُسمَّى أديباً مَن لا يكتب الشعر أو القصة أو الرواية، ولعل الحظ المتواضع نسبياً من النجاح لنتاج العقاد في الرواية وحتى الشعر هو ما ساقه إلى الغضب على ذلك النحو من التعريف المتداول للأدب والأدباء كما يرى بعض المتربصين بالكاتب الكبير الذي كثر مناوشوه كما كثر مريدوه، وربما كان الرجل يرى المقالة كفيلة بأن تسحب كاتبها إلى خانة الأدباء، ولا أدري ما الذي كان يجذب مَن هو في قامة العقاد وصِيته فكرياً إلى لقب أديب تحديداً وله في لقب “مفكِّر” مندوحة وأيّ مندوحة؟

إذا كان الأمر متعلّقاً بالقيمة العملية لما يُكتب، أي بتأثير المنتــَج المكتوب على الناس قياساً بغيره من المنتجات، فقد جاهرنا بالامتعاض مما حققته الكتابة والكتــَّاب عموماً في هذا المجال حين دعونا معشر الكتــّاب للتواضع ووشينا بالمهنة “الأرجل” من الكتابة، ولكن يبدو أن تعالي الكتّاب بعضهم على بعض مرتبط بفكرة نخبوية أكثر مما هو مرتبط بمأثرة عملية.

ما هي منزلة الأدب نفسه في سلّم الأجناس الإبداعية عموماً؟ (إذا جاز أن نعرّف الجنس الإبداعي على أنه كل فرع من المعرفة يسفر عن منتج يتلقاه الناس مادياً أو معنوياً)، وبسحب السؤال ذاته ليشمل منزلة الكتابة عموماً وليس الأدب فحسب تصبح القضية أكثر جماهيرية متجاوزة على كل حال إشكالية العقاد في تعريف الأدب والأديب.

إذا واجه الكتــّاب ذلك السؤال بجسارة فإن أهم ما سيسفر عنه الأمر فرَضاً أنهم سيتجاوزون فكرة تقسيم أجناسهم – ومن ثم أنفسهم – إلى طبقات، ولكن الجسارة الفكرية لدى البعض تعني تجاوز الواقع بكل خيال ممكن، وعليه فإن طرح السؤال بالصيغة أعلاه ربما كان من شأنه أن يمنح الأدباء والكتــّاب مزيداً من مشروعية الجموح في تقدير أنفسهم ثم تقنين تراتبيّتهم من بعد.

لِم نصرّ على أن نفيق كاتباً من وهمه بأنه الأهم على سطح الأرض وفضائها إذا كان مثل ذلك الوهم هو أحد أهم محرّضات إبداعه وكان إبداعه ذاك جميلاً مهما اختلفنا في أولويـّـته قياساً إلى ضروب الإبداع الأخرى؟ لعل ما يلحّ على طرح السؤال عن مشروعية التراتب بين أجناس الكتابة ليس سوى ما يُنظر إليه على أنه الدرك الأسفل من جنة الكتابة مقابل ما ينظر إليه على أنه أعلى مراقيها منزلة (عند من يسلِّم بأن الكتابة جنّة، وهذه في ذاتها مسألة لا تخلو من مغالطة لدى كثيرين).

من الصعب أن يُصادق أحد المهتمين بالكتابة (إبداعاً أو تلقياً) على أن ما يميّز قيمة محلل سياسي عن قيمة محلّل رياضي هو قيمة كتابة كلّ منهما من وجهة نظر فنية خالصة وليس قيمة الموضوع الذي يكتب كلّ منهما عنه، إذا جاز أنّ تعاطي السياسة أهم من تعاطي الرياضة في كل الأحوال.

ماذا لو همسنا في آذان القائمين على جائزة تلفزيونية رفيعة بأن تذهب تلك الجائزة لمسلسل كارتوني ساخر على شاكلة “سبونج بوب اسكوير بانتس” في قناة “نيكلوديون”، وذلك ليس في صورة جائزة خاصة بأعمال الرسوم المتحركة ولكن على حساب عمل درامي تاريخي كبير بمقاييس إعلامية، وليكن جدلاً مسلسل “الملك فاروق”؟

السبب في جرّ “الملك فاروق” إلى المقارنة الغريبة أعلاه، ثم تفضيل “سبونج بوب” عليه، لا يتعدّى ما ذهبنا إليه في مقام متقدّم من هذا الحديث من أن قيمة أي عمل يمت للكتابة بصلة تؤخذ من قيمة الأدوات الفنية التي صُنع بها وليس من قالب العمل أو موضوعه. في ذلك السياق أليس بإمكاننا أن نزعم أن “سبونج بوب” هو ملحمة فنية جمعت الخيال العلمي والكوميديا والفانتازيا والرومانسية (ماذا بعد؟) في صياغة تجاوزت “الملك فاروق” بدءاً من الكتابة ومروراً بالتمثيل وانتهاءً بالإخراج؟ نستطيع مؤكداً أن نجزم بذلك إذا امتلكنا جرأة تخطي أوهام التراتبية على أساس القالب أو الموضوع، ومن قبل على أساس الجنس الأدبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى