nasdahab@gmail.com
ما أصعب أن تشكّك في أسطورة راسخة، ما أخطر أن تفعل ذلك عندما يتعلّق الأمر بالشعر لدى العرب، الأدهى مطلقاً أن يكون المتنبي شخصياً هو موضع الأخذ والردّ.
كنت منذ زمان ليس بالبعيد قد تهيأت لوضع كتاب يحمل عنوان هذا المقال، ثم عدت فرأيت أن العتاد اللازم لخوض معركة من ذلك الطراز ليس في حوزتي بعد فآثرت الاكتفاء بأن أعرض للأمر على عجالة في حديث عابر كهذا من باب “لم لا؟” أي لم لا يجوز أن يتقدّم شاعر على المتنبي فيعتلي ذروة الشعر العربي؟ إلى الآن ليس من خصوصية في الأمر، فقد نشط لتلك الفكرة غير واحد من النقاد العرب الأوائل تارة بالتصريح وأخرى بالتعريض وثالثة بإغفال المتنبي وكأنه لم يمرّ بتاريخ الشعر العربي أصلاً كما فعل صاحب الأغاني. الأكثر خصوصية في هذا المقال أنه يجنح إلى إعلاء أحمد شوقي تحديداً على حساب المتنبي، ولعل الفكرة مجدداً ليست بالجديدة كـلـيـّـةً فأنصارُ شوقي – تماماً مثل أعدائه – كثيرون، وهم قد رفعوه من قبل إلى عنان الشعر العربي ولكن دون أن يجرؤوا في كل الأحوال على التصريح بإطاحة المتنبي – أو غيره – عن عرش الشعر العربي لحساب شاعر العصر الحديث شركسي/يوناني الأصول فيما يروى عن نسبه.
رحلتي إلى أن انتهيت إلى الإقرار شخصياً بأفضلية شوقي على المتنبي أنبأتني كم هو صعب أن تتزحزح عن قناعة قديمة متسلطة لمجرّد أنها قديمة ومتسلّطة، فالدلائل كانت تتوالى أمامي بما يرجّح مخالفة نوازع النفس الأمّارة بالركون إلى وساوس شياطين الشعر وشياطين النقد على حدّ سواء، ولكن الجرأة على مخالفة أولئك الشياطين اقتضت مني سنوات طوال ليس لجمع الحجج والتحقق منها ولكن لمغالبة هوى النفس التي نشأت أدبياً على أن تنظر إلى المتنبي كأسطورة لا يجب المساس بها، ولعل ما حدا بي إلى مناوشة أسطورية المتنبي أسباب لا تتعلّق بالأدب ونقده مباشرة قدرَ ما تنتمي إلى الحياة ونقد مسلّماتها بالدرجة الأولى. غير إنني – لأسباب مرتبطة بترتيب الأولويات ربما – نشطت إلى الإطاحة بكثير من مسلّماتنا الحياتية الأكثر رسوخاً وخطورة مرجئاً البت في الإطاحة ببديهية أسبقية المتنبي الشعرية حتى إشعار آخر.
لولا تفوّق شوقي الكاسح لتردّد كثيرون في تقديمه حتى على رفيقه حافظ إبراهيم لأسباب لا تمت إلى النقد الفني بصلة، فالجماهير المصرية كانت أكثر استعداداً لأن تحمل حافظ إبراهيم على الأعناق وتقذف به إلى سماوات المجد الأدبي لأنه خرج منها، وكان صفوة غير قليلة من النقاد الملتزمين على استعداد لأن تتواطأ مع الجماهير فتقذف بمن أضحى لاحقاً أميراً للشعراء خارج إطار المنافسة الشعرية القومية بالكامل لأسباب وطنية بحتة، غير أن موازين القوى لما هو سياسي وغير سياسي قد انقلبت في سيرة شوقي بما منحه فرصة أن يحظى بإنصات الجماهير التي تأكد لها لاحقاً أن شوقي بالفعل ليس منها ولكن ليس في ذلك ما يقدح بالضرورة في إمكانية أن يكون شاعراً عظيماً وأن ما يكتبه لها لا عليها.
في سِـيـَـر المبدعين ما يجعل مبدعاً يتقدّم على أقرانه وأحدُهم أفضل منه لأن ذلك المبدع كان مقرّباً من السلطة التي ليست بالضرورة هي الحاكم وإنما المجتمع وقوانينه في كثير من الأحيان، بل إن تلك السلطة قد تكون تلاميذ نشطاء يحفظون تراث فقيه مجدّد مثلاً فـيـُـنـشئـون مدرسة فقهية تحمل اسمه بينما يضيِّع تلاميذ أقلّ تواجداً حظوظَ أستاذهم الأعلى كعباً في أن ينفرد هو بالمدرسة الفقهية على حساب نظيره المحظوظ بتلاميذه أو على الأقل جنباً إلى جنبه، وكان الإمام الشافعي يقدّم الليث بن سعد على الإمام مالك من وجهة نظر “فنية” بحتة ويرى أن الذي أضاع تراث الليث تلاميذُه الذين لم يقوموا به كما فعل تلاميذ مالك.
لم يكن المتنبي بحاجة إلى تلاميذ يجمعون ديوانه ويحتفون به فقد فعل هو ذلك في حياته بنفسه، لكنه لا ريب كان مقرّباً من السلطة بمعناها المباشر ممثلة في الولاة والحكام الذين توالوا على قصائده ممدوحين مبجّلين وذروتهم سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي عندما يتعلّق الأمر بالمفارقة التي تصنع الشهرة.
المتنبي حقيق بالمكانة التي يعتليها بوصفه منفرداً بذروة الشعر العربي إذا ارتبط التقييم بالهالة التي تصنعها كاريزما المبدع وشعره الممزوج بسيرته المجيدة من منطلق درامي، بينما يغدو الأمر محلاً للخلاف عندما تنفرد وجهة النظر الفنية البحتة بالتقييم فيتقدّم على المتنبي كثيرون في نظر المهتمين بالشعر العربي في الغرب ممن تحظى دواوينهم بالدراسة والاهتمام عندما يتجرّد الشعر من سحر اللغة و القيم المحلية – التي تعلي من قدر المدح والفخر كغرضين شعريين محظيين لدى العرب – منطلقاً إلى ما هو إنساني جامع من المعاني التي لا تسقط أو تتدنــّـى قيمتها الفنية بالترجمة، عندها يصبح شاعر كأبي العلاء المعري أكثر حظوة من المتنبي، بل إن نفراً من المتصوفة – الأدنى فنياً لا ريب من وجهة نظر ناقد عربي – يتقدّم على المتنبي في الحظوة عند من ينظر إلى الشعر خارج إطار لغته وغنائيتها الصرفة وأغراضها العتيقة.
ما حدا بالخاصة والعامة من العرب إلى تقديم المتنبي على من سبقه من الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين وعلى من تلاه من الأندلسيين ومن جاء بعدهم يصلح مقدمة للإطاحة بالمتنبي نفسه عن عرش الشعر العربي التقليدي لصالح شوقي إذا تعلّق الأمر بالشعر مبنى ومعنى وأغراضاً، غير أن مهمة الإطاحة بالشعراء السابقين لصالح المتنبي كانت أسهل لا ريب من مهمة الإطاحة بالمتنبي نفسه لصالح شوقي، ففي الحالة الأولى كانت المشكلة تكمن في مواجهة عقود أو قرون يسيرة من التاريخ الشعري المتشابه، بينما هي في الحالة الأخيرة معركة في مواجهة حالة مزمنة من النوستالجيا تتستــّـر في ثياب النقد.
بانتظار أن يأذن الله بدراسة مفصلة تُعنى بالمفاضلة بين المنجزين الأدبيين للشاعرين الكبيرين، يظل سؤال “لم لا؟” مشروعاً في فقه النقد الفني ما دمنا لا نهاب أن نتجاسر على اطّراح السطوة الهائلة للقديم في نفوسنا.