عمرو منير دهب يكتب: عقد زواج، ليس عقد عمل

nasdahab@gmail.com

في “المهنة الأرجل من الكتابة” ألمحنا (صرّحنا ؟) إلى أن المقدرة على الإنفاق والإعالة أهم شروط التفاضل بين المِهَن، نضيف هنا أن المهنة التي تتسوّل البقاء لا تستحق ذلك إلّا بالقدر الذي يسمح به مـَن (ما) تتسوّله. كنت أتابع لقاءً تلفزيونياً عربياً مع مخرج مسرحي استعراضي “جادّ” قال إن الاستعراض المسرحي “الجاد” فن نخبوي يموت إذا لم تدعمه الدولة. هذا أحد الأمثلة الجليّة على ما نقول، لن يحيا ذلك الفن إلّا بقدر ما تسمح له الدولة بالإعانة، وبتحليل كلمة “الدولة” الفخمة إلى عناصرها الأولية يتبيّن أن مصائر تلك الفنون “النخبوية” رهين بعوامل لا حصر لها بعضـُها ليس له من فخامة “الدولة” إلّا حظ الانتساب لها من باب وقوعه داخل الخريطة السياسية التي يعتمل في حدودها كل ما هو مادّي ومعنوي من المؤثرات.

مكثت في مصر طويلاً وأحببتها كثيراً، وكنت أيام الجاهلية العاطفية أنحي باللائمة على الخليج (الذي تخلّلت إقامتي بمصر إقامتي فيه) لا لسبب سوى أننا نشأنا عاطفياً كمغتربين – في مراحل الاغتراب الباكرة – ليس فقط على اعتبار الوطن غاية عاطفية لا تضاهى، فهذا بديهي، وإنما على النظر قسراً إلى الخليج على اعتباره مرحلة عملية عابرة لا ينبغي أن تشغل حـيّـزاً عاطفـيّـاً من أي قبيل. وكنت محظوظاً لوجودي في عائلة امتلكت فكراً متقدّماً في هذا الباب، يبجِّل الوطن ولا يرى في التعلّق الثانوي بغيره حرجاً، لكنني لم أفد من هبات ذلك الفكر إلا متأخراً عندما عركني بعضُ أسباب الحياة ففطنت إلى أنه ليس في نطاق أي منطق مستقيم أن أتداعى في عشق تجربتي المصرية (التي امتلكت – على النطاق المالي – من المقدرة على الأخذ أضعاف ما امتلكت من المقدرة على العطاء) وأنا أُولِي الخليج اهتماماً عاطفياً عابراً في الوقت الذي أستجديه عقداً للعمل ليس متاحاً في مصر بأية حال.

اطمأن المغتربون إلى تلك المعادلة حيناً من الزمان: أن يكون على أحد طرفي حياتهم وطن بعيد يستأثر بالعاطفة كلها وعلى الطرف الآخر معسكر يَحيـَـون فيه يستحوذ على العمل كلّه، ثم فطن أغلب المغتربين (من كل جنس ولون) في مرحلة متأخرة إلى أن حياة الواحد منهم لا يمكن أن تستقيم وهو يزعم أن قلبه في مكان بينما هو يتشبث بأسباب الحياة في مكان آخر، وفطن أغلب أولئك المغتربين تبعاً لذلك إلى أن الاعتراف ببعض أشكال التعلّق العاطفي بمواطن (ليست أوطان بالضرورة) الاغتراب والهجرة لا يفسد لودّ الوطن (الأم أو الأب) وصحة الانتماء إليه قضية.

يستحق بلد ما إذا كفل أسباب الحياة الكريمة شكلاً من أشكال الانصراف العاطفي وليس الاعتراف العابر بالجميل فحسب، وأسباب الحياة الكريمة ( تلك التي كُفِلت بعيداً عن الوطن) لا تقدح على أية حال في مقدرة الوطن على العطاء قدر ما تقدح في مقدرة أبنائه على الاتفاق بما يكفل اجتماع أسباب العطاء في أرضهم، وهذا لا يستتبع أن نسارع فنفاضل بين بلاد الله (وأحدُها ما ليس بوسعنا أن ننسلخ عنه) على أساس القدرة على الإعالة مجرّدة مما يحيط بها من مؤثرات، غير أن ذلك النحو من المفاضلات ممكن فيما نزعم عن المِهَن التي هي الصلة المباشرة إلى ضمان أسباب الحياة.

المهنة “الأرجل” من الكتابة هي المهنة التي تنفق على صاحبها والكتابة تتفرّج، الأخطر من ذلك أن تنفق المهنة “الأرجل” من الكتابة على الكتابة نفسها، عندها لا نستطيع أن نفهم كيف يمكن ليدٍ سفلى أن تفضل أختها العليا وقد انحصرت أهم أسباب المفاضلة في العطاء. فإذا جاز أن هناك من أسباب المفاضلة ما هو أكثر جوهرية من العطاء (كالتأثير)، فليس أدلّ على نفاذ التأثير من المقدرة على الكسب، الذي هو من وجهة نظر ثانية دفعُ الناس عن طيب خاطر لما (ومـَن) يحتاجون إليه على نحو أكثر إلحاحاً من غيره.

مـَن يرتبط بالكتابة يوقــّع على عقد زواج وليس عقد عمل. حرِيٌّ بمـَـن يتزوّج الكتابة أن لا يدعها تغريه بالكف عن اتخاذ مهنة أخرى تكفل له أسباب القِـوامة في عقد زواجه ذاك، وهو إن حاول أن يكتفي بالرضا من غنيمة الحياة بالكتابة ستدفعه الزوجة المتطلِّبة إلى الذهاب إلى العمل لكي يستطيع الوفاء بأكبر قائمة مشتريات يومية تضعها زوجة. وعندما ينجح الكاتب في عمله المُعيل ذاك لن تبخل عليه الزوجة بأن تمنحه حُظوة أن يزهو بها وهو يصطحبها في كامل زينتها إلى كل حفل بهيج.

Exit mobile version