تقارير

عمرو منير دهب يكتب.. صراع مع الشهرة

nasdahab@gmail.com

مثلما أن بعض المبدعين موهوب في مجال إبداعه فإن البعض موهوب في تقصَّـي آثار الطرق المفضية إلى الشهرة خلف هذا الباب أو ذاك من أبواب الإبداع. يترتــّـب على ذلك من المعاني أن المبدع إذا ولج أحد ميادين الإبداع من بابه، أو حتى أوسع أبوابه، عن جدارة في الموهبة فإن هذا ليس شرطاً بالضرورة لأن يتسنــّم ذرى الشهرة في ذلك الميدان.

ينطبق ذلك الحكم على الكتابة مثلما ينطبق على سائر فنون الإبداع، بل إن ميادين علمية وعملية مما لم يدرج الناس على وصف العمل فيها بالإبداع كالطب ينطبق عليها الحكم نفسه، فالطبيب ذائع الصيت الذي يتدافع الناس على أبواب عيادته ليس بالضرورة أوّلَ دفعته أو أمهرَ زملائه في التخصص، ولكنه ببساطة أذيعهم صيتاً لأنه عرف كيف يقنع الناس بأنه الأحق بالشهرة.

يذهب البعض إلى أن الشهرة هي محصلة القبول الذي يطرحه الله في قلوب البشر تجاه أحدهم، وتروج فكرة القبول هذه في التمثيل على نحو خاص حين لا يجد الناس مبرّراً فنيـّـاً لانتشار ممثل دون آخر، وإذا كان لا يمكن تعليم القبول فلا أبسط من الإقرار بإمكانية التنبؤ به أحياناً، و”أحيانا” فقط، ذلك أن كثيراً من المتنبّأ بهم يخذلون مـَـن هلّل لهم وبشــّـر بهم بعد بدايات واعدة ومغرية بمزيد من التهليل والتبشير.

يكتب الكاتب وقد يغدو مشهوراً أو لا، وربما يظل بعض الكتــّـاب ينشد الشهرة حتى آخر حرف من حياته. الشهرة “على كِبـَـر” تفقد نصف حلاوتها أو أكثر بحسب ما ضاع من العمر والمبدعُ مغمور، وإضافة إلى الزمن الأقلّ المتبقي في الحالة الأخيرة للتلذذ بالشهرة فإن طاقة المبدع “العجوز” وقوى حواسه تخذلانه من حيث “الكيف” في أمر التلذذ ذاك.

وربما تُهيِّء الشهرة لمبدع بعد عمل أو عملين سائرَ مستحقاتها من الزهو والنشوة فيشرع في اجتراحها راضياً مرضياً عليه من قبل معجبيه، ثم يُفاجأ بنفسه يهوي إلى حيث كان أو أبعد دركاً من الاندثار دون تبرير سوى أن الشهرة كانت قد وسعته في حُظوتها ليومين في عرض خاص على سبيل الترويج، عندها تصبح مهمة المبدع صعبة في لملمة زهوه وانتشائه بأسرع ما يمكن والعودة إلى صفوف الجماهير من المبدعين لمواصلة عمله في تواضع جـمّ.

الشهرة أنواع، وقد يطمح المبدع إلى إصابة نوع بعينه منها ويُـكتــَـب له نوع آخر، فيظل مشهوراً على ما لا يؤثره من الطرق وهو يفني عمره جرياً وراء ما جفاه من ضروب الشهرة. يشبه ذلك كاتباً ظلّ يمنــِّـي نفسه بلقب ناقد رصين والناس تحشره في زمرة الكـُـتــَّـاب الساخرين وتــُغـدق عليه من أنماط الحفاوة ما يظنه هو هزلياً لا يرقى إلى طموحه الجادّ من الذيوع. ومقابل ذلك كاتبٌ يُلقي بظلاله التي يظنها خفيفة على جماهير تنوء أرواحها بالحمل الثقيل ولا ترى بأساً باستقباله في مقامات أخرى لا يتكلّف خلالها حـَـمْلَهم على الابتسام.

أهـوَن أنواع الخطأ في طلب الشهرة ما يقترفه المبدع داخل حدود مجاله من الإبداع على نحو ما أشرنا بأن يقصد وجهاً من أوجه الكتابة والناس تحتفي به في غيره من الوجوه، وأجلُّ الأخطاء في طلب الشهرة أن يقضي الواحد عمره مشهوراً – أو مؤهلاً للشهرة – في مجال وهو يطرق أبواب المجد في غيره من المجالات. ولعل المتنبـّي قد مات وفي نفسه شيء من الحُكْم، فهو – الذي كان بوسعه أن يحافظ على لقب شاعر العرب الأشهر لحوالي ألف عام – أفنى أجملَ قصائده في استجداء الأبيض والأسود من الملوك والأمراء من أجل أن يـُولُّوه أمر الناس هنا أو هناك، فقد أبت نفسه من الشهرة إلا ما أفضى إليه بعض أشكال المُلك من الحُكم غير قانع بصيته وهو الذي مـَـلَك الحِكمة من الشعراء.

لا تصدّق مبدعاً يقول إن الشهرة لا تعنيه، فالشهرة هي التأثير والمبدع الذي لا يحب أن يؤثــِّر في الناس كان أولى به أن يعرض إبداعه على نفسه لا غير، مجرّدُ عرض العمل المُبدَع على الملأ يعني انتظار أن يؤثــِّر العمل فيهم، ما يعني ضمنياً شكلاً أو آخر من أشكال ترقــُّـب الشهرة.

غاية كل مبدع أن يعدو خلف الشهرة حتى يدركها فيدَع الناس تركض وراءه. قد يقنع مبدع بحظ “كيفي” من الشهرة ويُـسمّـي ذلك زهداً ثم لا يلبث أن تنقلب حاله رأساً على عقب مع عاصفة مفاجئة للشهرة لم يكن يحسب لها حساباً. المبدع الصادق في زعمه لرفض الشهرة يقصد في الواقع أنه لا يحب أن يواجه الضجيج والأضواء المصاحبين للشهرة، لكنه مؤكداً يحب للضجيج والأضواء أن لا يكفــّـا عن ملاحقته ليتوارى عنهما خلف الأبواب.

الشهرة هي الفعل الذي هو بالضرورة غاية كل مبدع بشرط أن تــُـترَك له حرية ردّ الفعل بما يوافق استجاباته الشخصية ويشبع غروره الفريد، وعندما تلحّ الشهرة في فرض شروطها الخاصة فإن أغلب المبدعين ينزل على رغبة الشهرة في إملاء الشروط، والقلة التي تقاوم ذلك من المبدعين تودِّع الشهرة مأسوفاً عليها وهي تذرف خلفها الدموع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى