عمرو منير دهب يكتب: شفتوني؟
nasdahab@gmail.com
أسرّ لي صديق بأنه يشتري صحيفة يومية بعينها كل يوم لأن صديقاً له يكتب مقالاً يومياً فيها يسأله كلما قابله: “قريت مقالي الليلة؟”، ولم تــُـجـدِ مع ذلك الكاتب حيلة للمراوغة بإجابة عامة من قبيل: “أيوا… المقال جميل”، فقد كان يطرح عليه صديقه أسئلة بالغة الدقة عن تفاصيل المقال موضوع السؤال الكبير كل ليلة ويلحّ في معرفة الإجابة.
من فوائد الطرفة أعلاه أنه لا بأس بممارسة الإرهاب (الفكري؟) على تلك الشاكلة على الأقل مع المقرّبين من القرّاء، فمن بركاته أنه يعود بالخير على الجريدة فتزداد نسب توزيعها بازدياد الكُـتــّـاب الإرهابيين والقرّاء من ذوي الحياء الجمّ.
قلت في “صراع مع الشهرة”، وهو مقال سابق في هذا الكتاب: “لا تصدّق مبدعاً يقول إن الشهرة لا تعنيه، فالشهرة هي التأثير والمبدع الذي لا يحب أن يؤثــِّر في الناس كان أولى به أن يعرض إبداعه على نفسه لا غير”، وعلى ذلك فإن سؤال: “قريت مقالي الليلة؟” يعتمل بالضرورة في خاطر كل كاتب وإن كانت قلّة من الكـُـتاب تجرؤ على أن ينزلق السؤال من خواطرها إلى ألسنتها بشكل أو آخر، وقلّة من تلك القلّة تذهب بها الجرأة إلى حدّ مواجهة المقرّبين من الأصدقاء بالسؤال مباشرة كما رأينا.
وفي “خدمة توصيل المقالات للمنازل”، وهو أيضاً مقال سابق في هذا الكتاب، تجاوزت صنيع الكاتب المستشهَد به أوّلَ هذا الحديث فأقررت بأنني لا أنتظر حتى أقابل أصدقائي المقرّبين فأسألهم إذا كانوا قد قرؤوا مقالي أم لا، بل أدفع بما أكتب دفعاً من فوق “أسوار صناديق الوارد في البريد الإلكتروني لكلّ صديق”، وبإمكاني بذلك أن أزعم أنني أكثر رفقاً بالأصدقاء، أو بالأحرى بجيوبهم فأنا لا أكلّفهم مشقة أن يغرموا ثمن الجريدة، غير أن صديقاً ماكراً نـبّـهـنـي إلى أن غرم ثمن الجريدة أهون ما في الأمر، فهو على استعداد كما قال ممازحاً (أو هكذا بدا لي) لأن ينفحني بثمن الجريدة مقدّماً عن عام كامل فداءً لمقالات تقع على بريده الإلكتروني فيجد نفسه مضطراً لقراءتها درءاً لحرج الإخفاق في التعليق عليها مما كان ممكناً تلافيه لو أن الجريدة كانت تـُشترى فيعتذر عن عدم التعليق بعدم قراءته المقال لنفاد الجريدة الرائجة من الأسواق قبل أن يسعده الحظ بحصوله على نسخة منها.
ولكن السؤال الأهم من “قريت مقالي الليلة؟” لدى أي كاتب هو: “عجبك مقالي الليلة؟”، والذي لا شك فيه أن الكاتب وهو يطرح السؤال الأول لا يعني سوى السؤال الأخير ولكن الحياء يمنعه من أن يُحرج محدّثه بسؤال حساس مباشر من ذلك القبيل، أو لعله يتفادى إحراج نفسه إذا كان من يتوجّه إليهم بالسؤال في صراحة بعض من أعرف من الأصدقاء الذين لا يتحرّجون من أن يقولوا لـلكاتب الممل “كاتب ممل” في عينه.
وبعض القرّاء، ممن لا أعرف بحمد الله، يتلذذون بمواجهة الكاتب بعيوبه، وإذا كان الكاتب بريئاً من العيوب الظاهرة والخفية فإن نفراً أكثر شذوذاً من القراء، ممن لا أعرف كذلك بحمد الله، يتلذذ برؤية الكاتب “مُجهجــَـهاً” يذرع ميادين الحجج طولاً وعرضاً بحثاً عن أدلة براءة من عيوب ملفقة.
غير أنني أعود فأستدرك بأنه يروقني أن أعرف القرّاء من كل قبيل وأن أستمع إلى آرائهم، فليس من العدل أن نصطفي من يغدق علينا الثناء من القرّاء ونقصي من لا يفعل ذلك (أو من يفعل عكس ذلك) لمجرّد ظنــِّـنـا أننا الأصل في الكتابة السليمة وأن معجبينا هم الأصل في القراءة والفطرة السليمتين، فرُبّ مخالف في الرأي يُغلظ في القول وتكون له دوافعه غير البريئة ومع ذلك لا تعدم كلمته فائدة مرجوة وإن لم تكن تلك الفائدة سوى تعوّد الصبر على المكاره.
عندما يصبح الكاتب متخم نجومية فإنه لا يعود مهتماً بإلقاء السؤال – حول من يقرأ كتاباته – على عواهنه، فهو يفترض أن الناس تقرؤه كلَّ مرة يكتب فيها، لذلك فإنه على الأرجح يصبح نخبوياً فيمن يتوجّه إليهم بالسؤال مكتفياً بتفويض مدير أعماله بالردّ على رسائل الإطراء من معجبين كان يتوق إلى سماع همسة إعجاب عابر منهم في زمن ما، ليس بعيداً بالضرورة.