nasdahab@gmail.com
“الشعر ديوان العرب” و”زمن الرواية” قولان يـبـيِّـنـان كيف أن الكُتاب – والعرب خصوصاً – ينظرون إلى العالم من خلال أعمالهم، وهذه طبيعية، فحتى جامع القمامة (ومهنته من الشرف والأهمية بما يحتاج دوماً إلى تذكير) يرى العالم ويشمّه من خلال مهنته، غير أنه كان من الأولى للكُتــَّـاب المزهوِّين ببضاعتهم منذ ابتداعها أن يكونوا أكثر دقة في التعبير فيقرِّوا بأن المفاضلة المقصودة إنما هي بين صنف وآخر من الكتابة وليست بين أعلى صنوف الكتابة كعباً في هذا الزمان وغيره من الصناعات، كما يتبدّى من عبارات المقارنة المرسلة.
فإذا أصرّ الكُتــَّـاب على إطلاق الموازنة على عواهنها بين سائر صناعات هذا الزمان، ألا يكفي أولئك أن يكون هذا زمان الكتابة فحسب؟ في الواقع تخصيص المفاضلة في صنف بعينه من الكتابة هو حالة هروب لاشعورية من مواجهة حقيقة أن هذا ليس زماناً للكتابة بصفة عامة إذا كان المقصود هو التربُّع على أفئدة الجماهير أو قوائم الصناعات الأعلى إيراداً.
واقعياً كذلك – إذا أمعن الزملاء الأجلاء النظر حولهم – يكفي أن يكون هذا زماناً يصلح للكتابة رجوعاً إلى التعريف الكلاسيكي الذي يقصده الجميع وهم يتحدّثون عن الكتابة والقراءة، فالكتابة والقراءة متاحتان الآن وبكثافة أعلى من أي زمن مضى إذا ضمّنــّـا الأشكال المستحدثة في الحساب والتقييم.
بدأت مهدِّدات الكتابة والقراءة إجمالاً في العصر الحديث بالراديو ثم التلفزيون ثم الكمبيوتر ثم القنوات الفضائية ثم الإنترنت بصفة عامة ثم برامج “الونسة/الدردشة” بصفة خاصة والتي تطوّرت إلى شكل أكثر وقاراً وجاذبية وتأثيراً مع برامج التواصل الاجتماعي، ولا يزال العرض المتجدد بالمهدِّدات مستمرّاً على ما يبدو.
ولكن الشكوى من نفور الناس من القراءة قديمة، فقد بدأت بالتذمُّر من انشغال الناس بشؤون عيشهم (الذي يُؤكل) وانصرافهم إلى ملذات الحياة المادية على حساب الأخرى المعنوية والتي من بينها (أو في مقدمتها) غذاء الروح الشهير ممثلاً في القراءة.
بناءً على ما تقدّم، فإن القراءة قد وُلدت والناس منشغلون عنها، فالانصراف إلى بهجة المادّيّات أرسخ فطرة في النفوس من الانجذاب إلى النشوات الروحانية بما لا يحتاج إلى مجادلة إلّا على سبيل الموعظة بالتخفيف من سطوة الأولى لصالح الأخيرة التي تبدو بحاجة مستمرة إلى التذكير والعظة بشأن خيرها وبركتها.
شكوى الكُـتـاب من انحسار بضاعتهم في الأسواق هو لوم مبطَّن للقرّاء على الانصراف عن تلك البضاعة حتى إذا بدت الشكوى في ظاهرها تذمُّراً من جور الزمان المبني للمجهول، وإذا تجاسر البعض على إظهار الفاعل فهو المتنفــِّـذون في مواضع القرار في هذه الجهة وتلك من المؤسسات المعنـيـّة، بينما القارئ يبقى في عرف الجميع مفعولاً به مغلوباً على أمره ومبرّأً من المسؤولية والعقاب.
وإذ لا يخفى ما في هذا الصنيع من مداهنة من قِبل الكاتب للقارئ بوصف الأخير هو المستهلك الذي لا يجب خسارته بحال كما توصي معاجم الأسواق ومراجعها النفسية، فإن القارئ لا يعدم بدوره الحجة في تبرير إحجامه عن القراءة حتى إذا كان مَن يتداولون الاتهامات يعفونه من مشقة البحث عن أدلة البراءة بإسقاط التهمة عنه ابتداءً.
ولكن أكثر من ذلك، ينبري القارئ مهاجماً، فتقاعسه عن القراءة يبرِّره تدني الأعمال الجيّدة لدى كُتاب هذا الزمان، أو على الأقل الأعمال الجاذبة، والأخيرة هي العقدة التي تتوّج صراع البقاء في أسواق هذا الزمان إنْ فيما يخص الكتابة من صنوف البضائع أو في كل ما اشتملت عليه الأسواق من منتجات، فما يعني المستهلك لم يعد جوهر السلعة من حيث مضمونها وجودة صناعتها فحسب وإنما جاذبيتها للاقتناء والتداول أيضاً، وربما من قبل.
ذلك عن القارئ المنصرف للقراءة، أما المتلقــِّي بصفة عامة فقد يفضــِّـل طُرقاً أخرى للمعرفة غير القراءة كليّةً، ومن تلك الطرق على سبيل المثال اقتناص الخبرة من الحياة مباشرة بلا وسيط بخوض غمارها طولاً وعرضاً والتعامل مع كل صنوف البشر والانغماس في شتى المغامرات الممكنة. ومعروف أن ذلك لا يغني عن الخبرة المتاحة بقراءة تجارب البشر عبر التاريخ في مختلف أشكالها، ولكنه في الوقت نفسه يفوق في الفائدة الركون إلى لذة اقتناص تجارب الآخرين عبر صفحات الكتب والواحد متّكئ على أريكته، إذا كان لا بدّ من المفاضلة.
في النهاية يبدو أن الكتابة والقراءة صنوان، حتى إذا سبقت الأولى الأخيرة بقليل أو كثير بحكم منطق تراتب الأحداث وقـتـيـّاً ليس إلّا، فالحديث عن زمن الكتابة هو في الواقع حديث بصورة موازية متضمَّنة عن زمن القراءة، وهو أصلاً حديث عن حال ومآل الكلاسيكي مما هو مكتوب ومقروء كالكتب والصحف والمجلات الورقية (الدسم منها مادةً على الأرجح) مقابل المستحدَث من وسائط الكتابة والقراءة كالمدوّنات والبريد الإلكتروني وغيرهما مما تتسع له مواقع الإنترنت ولا يزال في عرف المحافظين لا يرقى إلى كلاسيكيات القراءة والكتابة “الجادة”.
ولكن ماذا عن الكتاب الإلكتروني وهو ليس سوى الكتاب التقليدي جوهراً، وباجتهادات مقدّرة من القائمين على الأمر أوشك أن يصبح نسخة منه شكلاً كذلك؟ هذا هو سؤال المواجهة الحادة الذي يحملنا على الإقرار بأننا نعيش زمان الإنترنت. وربما كان من الحكمة للكتابة والقراءة أن تمتطيا هذه الوسيلة الطاغية في اكتساحها وتعقدا معها وثيقة صلح أو معاهدة عدم اعتداء، من طرف واحد بالطبع.
الواقع أن الإنترنت ليس خصماً للكتابة والقراءة وإنما هو ببساطة – في أحد أشكال تطبيقاته التي تــُعيي الحاصر – البديلُ الساحر للورقة والقلم، أحبَّ تلك الحقيقة من أحبّ وأبغضها من أبغض، وأنا أول المبغضين.