تقارير

عمرو منير دهب يكتب: أنا ومن بعدي بقية الضمائر

nasdahab@gmail.com

عندما انفتح العرب قبل ما يربو على الألف عام على علوم الأمم الأخرى (الأكثر تقدُّماً بالضرورة) وآدابها وفنونها عن طريق الترجمة أفادت اللغة العربية من ذلك تماماً كما أفادت الأمة العربية من العلوم والآداب والفنون المنقولة. الترجمة ظاهرة صحية حينما تعكف عليها أمة لها من إرادة النهوض ما يتجاوز بوضوح ظاهرة النقل الحرفي، وهي ظاهرة أقلّ صحية (وربما لا مفرّ منها) عندما تتهافت عليها أمة لا ترى أبعد من القاموس الذي يعين على النقل. والأمة في الحالين السابقين هي الأمة العربية غير أن الفارق في الهمّة والقدرِ كبيرٌ بقدر ما يفصل بين الأمة ونفسها من الزمان.

مقامات التباكي على تراث العرب المجيد لا حصر لها، والمدهش أن معين العرب من الدموع لا ينضب، فهو متجدّد بقدر تجدُّد ما يدعو إلى ذرف الدموع وتدبيج البكائـيّات. هذا بفضل الله ليس واحداً من المقامات الداعية إلى امتحان ثراء الغدد الدمعية عند العرب، خاصة أن نتيجة الامتحان معروفة، غير أن الشيء بالشيء يُذكر، وأحياناً يُذكــَـر الشيء بلا شيء يدعو إلى التذكير به، وعلى هذا فإن الترجمة حديث ذو شجون، ولا نظن أن أمة تسلم من التبعثر في تفاصيل شجون الترجمة هذا الزمان غير أمة لسان أمها هو الإنجليزية التي يتهافت الناس على الترجمة منها وإليها وهي مبتهجة بذلك التهافت لا يضرّها ما قد يكتنفه من غيرة أو حنق.

وإذا كان من نافلة القول التذكير بأن الترجمة أيّاً ما كانت لا تخلو من فوائد، فإن الواجب ذكره من باب الإعادة المؤكِّدة أن الترجمة الحرفية تحديداً لا تخلو من فوائد، على اعتبارها أضعف الإيمان لدى أمة خارت قوى إبداعها حتى في النقل اللغوي فوقفت عند وَقــْـع الحافر على الحافر مترجماً.

من الفوائد المباشرة للترجمة، عن أية لغة، إثراءُ اللغة المنقول إليها بتعابير اللغة المنقول عنها، وأظهرُ من ذلك في مقام استبصار فوائد الترجمة إثراءُ اللغة “العالة” بكلمات اللغة “المُعيلة” مع قليل من التحوير في الغالب. وإذا كانت اللغة العربية قد أفادت قبل الألف سنة المأتيّ على ذكرها أولَ هذا الحديث من خيرات اللغات المنقول عنها، فإن الحظ الأوفر من التأثير ربما كان للغة الفارسية لأسباب تتعلّق بالتداخل التاريخي والجغرافي والديموغرافي الأكثر امتزاجاً في ذلك الزمان.

الأثر الكاسح للإنجليزية في هذا الزمان على كل لسان (طويلاً كان أم قصيراً) يجب أن يدعو إلى الإعجاب. إنه كسْب الإنجليز، ومن بعدهم الأمريكان، الذي أحرزوه عن جدارة لا تعنيها المعايير الأخلاقية كثيراً، وعلى مـَـن يعترض على احتفائنا بتلك الجدارة أن يطلعنا متى كان التأثير في أي مجال معنيـّاً بالمعايير الأخلاقية، ذلك أن تعريف الأخلاق نفسه محلّ للخلاف، وإن كان التعريف عموماً في مجال التأثير والتأثر مما يتفق عليه المتأثرون جملة واحدة إلى حدّ بعيد مقابل المؤثــِّر الذي يحتفظ إلى جانبه بالطرف النقيض لذلك التعريف.

ما أجمل أن تكون قوياً لتفرض تعريفك للأخلاق، والأكثر جمالاً أن تكون قوياً بحيث تنام ملء جفونك عن شوارد أفعالك المؤثرة وتترك المتأثرين يسهرون في تخريجها الأخلاقي ويختصمون.

ألا يبدو للوهلة الأولى جميلاً أن نستورد التعبير الأجنبي “أنت وأنا” بدلاً من “أنا وأنت” كما يمليها السياق العربي فصيحاً ودارجاً؟ نقول:” ذهبنا محمد وأنا” بتأثير الترجمة الحرفية عوضاً عن: “ذهبنا أنا ومحمد” كما هي في ثقافتنا وعقولنا الباطنة بلا تأثير، ومترجمونا لا يعدمون مبرّراً أخلاقياً لذلك التحوير البسيط من باب الإيثار الظاهر في النصوص اللغوية المنقول عنها، رغم أن الإيثار كمفهوم أخلاقي يتأخر كثيراً في الحياة التي تمثل لها تلك النصوص.

هل كنــّا سنقف الموقف ذاته لو أن المسألة مقلوبة بحيث كانت “أنا وأنت” هي الأصل في الثقافة المنقول عنها مقابل “أنت وأنا” في ثقافتنا الناقلة؟ الأرجح أننا كنا سنسارع، من باب تأثــُّـر المهزوم، إلى استيراد التعبير الأجنبي ولن نعدم لذلك تخريجاً جميلاً يحتفي بالنفسية الأجنبية الأكثر استقامة في تعقب بواعثها الفطرية بتقديم النفس على الصاحب.

تلك هي بليّة المهزوم في تأثره بالمنتصر جملة وتفصيلاً، ولعل التأثر الوحيد المشروع في هذا الشأن هو ما أشرنا إليه من أحقية الإعجاب بالنصر مجرّداً كمنجز حضاري، عسى أن يكون ذلك باعثاً على غيرة حافزة وغبطة مشروع لها أن تتعدّى إلى مرتبة الحسد في سباق التأثير والتأثر الحضاري بين الأمم والشعوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى