رأي

عبد الله الطيب في عيني محمد المكي إبراهيم

براعة في اللغويات وعقل حاشد بالمعارف

محمد المكي ابراهيم

اختيار: د.خالد محمد فرح

فاتتني مواسم الذكرى وهذه الكلمة مختبئة بين الأضابير، اما وقد عثرت عليها فلابد ان ترى النور في ذكرى ذلك العظيم

رحيل آخر جيل العمالقة في السودان

عبدالله الطيب.. براعة في اللغويات وعقل حاشد بالمعارف

ظل يصارع المرض لقرابة العامين، وظلت اخبار تحسّن صحته تصل الى محبيه من سودانيي »الدياسبورا« في كل أنحاء الدنيا، فيستبشرون بقرب الشفاء لما يعرفون عنه من قوة العزم والبدن والاقبال المستمر على رياضة السباحة التي كان فيها من البارعين رغم تقدم السن. وفي النهاية فوجئنا جميعا ان الموت قد كسب الجولة ورحل عنا البروفيسور عبدالله الطيب، أحد أبرز الاسماء في جيل العمالقة السودانيين الذين لمعوا مع بداية عصر الاستقلال كالشهب في سماء السياسة والقانون والطب والإدارة والتعليم والأدب، واحرزوا من التفوق ما لم يكن متوقعا من ابناء دولة كانت ترزح تحت نير الاستعمار. ولعل الإدارة الكولونيالية هي التي دفعتهم دفعا للتفوق والامتياز، فقد كانوا جميعا ـ جيلا وجمهورا ـ يسعون لإثبات شيء مهم هو جدارة السودانيين بالحرية والاستقلال وحكم انفسهم بأنفسهم، ويعتبرون تفوقهم المهني والاكاديمي اسهاما في تحرير البلاد.

ولد عبدالله الطيب في أرومة من اشرف البيوتات في السودان، فقد اشتهر أهله (المجاذيب)بالتقوى والصلاح ونشر العلوم الدينية بين مريديهم الكثيرين، وكان لهم محبون في السودان الشمالي، وكذلك في شرق السودان. وكان من أتباعهم الروحيين القائد العسكري الفذ عثمان دقنة الذي قاتل البريطانيين في شرق البلاد، واقتحم عليهم التشكيل العسكري المسمى »القلعة« أو »المربع«. وكان بين شهود عبقريته شاعر الامبراطورية البريطانية روديارد كيبلنج الذي كتب عن مقاتليه قصيدته عن ذوي الشعور الطويلة.

ويتصل نسبه بعدد من الأجداد الشعراء تخصصوا في مدح الرسول الكريم بينهم رجال ونساء، ويقول ان والده نفسه كان شاعرا ورث عنه كراسة بخط يده تحوي بعض اشعاره، ولكنها ضاعت منه في حادث طريق في عام 1934: »قدمنا متأخرين فلم يكن في دار المسجد احد وكانت مغلقة فغفونا قريبا منها وربطنا »شنطنا« بعمائمنا، فصحونا الصباح ولا عمائم ولا شنط. وكان الشعر وكراسات الوالد التي فيها علمه وخطه الجيد مما ضاع وأهم ما ضاع«.

تميز منذ صباه الباكر بالذكاء وقوة الحافظة التي ساعدته على اختزان الجزء الاكبر من العلم في صدره، وظل محافظا على تلك القدرة حتى اصابته بالجلطة الدماغية قبل عامين. ولحافظته القوية تجليات عديدة، ولكن اطرفها قدرته على تذكر ما يخوض فيه من حديث، فقد كان يلقي دروسه على طريقة المشايخ القدماء ومنهجهم في تقصي جزئيات المواضيع والعودة منها الى الموضوع الرئيسي بطريقة »وصل ما انقطع«، من دون ان ينسى موضع الوقوف وما كان يخوض فيه من شؤون اللغة والتفسير. وبدقة الساعة يواصل من حيث انتهى.

عبدالله الطيب عالم لغوي في المقام الاول، وشاعر في المقام الثاني، وحافظ للقرآن والقراءات والتفسير في ثالث المقامات. وهو الى ذلك مؤلف مسرحي وكاتب مذكرات يمكن اعتبارها من اوائل ما وضع السودانيون في علم الاجتماع الوصفي. والى جانب كونه لغويا عربيا من ارفع طراز. كان البروفيسور شديد التمكن من اللغة الانجليزية، وكان على دراية باللغة الفرنسية لا بد انها معرفة متقدمة فقد فوجئنا به في محاضرة بالفرنسية جالسا في الصفوف الاخيرة لكي لا يلفت الانظار إليه، وكان موضوع المحاضرة في القانون واستيعابها يتطلب معرفة كبيرة بالفرنسية.

كانت محاضراته في كلية الآداب تجتذب طلاب الكليات الأخرى، كما تجتذب أناسا من خارج الجامعة يحرصون على الاغتراف من فيضه الوافر، أما محاضراته العامة فقد كانت الأمكنة تضيق بروادها من عشاق أدبه وعلمه. وأذكر على وجه خاص كلمته في الاحتفال بعيد الميلاد الثمانين للعميد يوسف بدري المؤسس الثاني لمدارس »الاحفاد« وجامعتها. فقد شاق وأضحك وأبكى جمهورا من صفوة أهل السودان. واستولى على ذلك الجمهور بصورة تامة حتى انه لو تحدث طول الليل لظل ذلك الجمهور مكانه يتابع ويستمتع.

حديثه كان غاية في الطلاوة وما حبب أهله السودانيين به معرفته الواسعة بلهجاتهم العربية وقدرته الفذة على رد تلك اللهجات الى أصولها العربية القاموسية. وبصورة من الصور كان حضوره وتواصله مع العالم العربي دليلا على عروبة السودان وتعبيرا عن حنين أهل السودان الى منابع أرواحهم الأصيلة في مصر والجزيرة العربية. وهو أمر تراه الأسر السودانية دليل العزة والشرف، بينما يعتبره بعض المثقفين المحدثين ظاهرة مرضية في تحديها للديموغرافيا وسببا رئيسيا لمتاعب السودان السياسية، إلا ان البروفيسور عبدالله الطيب لم يتجاوز في ذلك اطاره الشخصي والقبلي حيث تحمل الألسنة والسحَنُ علائم أصولها العربية العتيقة، وترتفع قبيلته بنسبها الى العباس بن عبدالمطلب عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي مقدمة ديوانه الاول »اصداء النيل« يتحدث عن ذلك النسب مؤكدا له ومزريا بمن شكك فيه من الكتّاب والمؤرخين.

ومع اعتداده بنسبه العربي، فإن البروفيسور لم يجد من العرب ما يستحق التقدير إلا متأخرا جدا، حين نال جائزة الملك فيصل العالمية للآداب. وكان ذلك انصافا للرجل وتبرئة للجوائز العربية التي ظلت تتخطاه يمنة ويسرة ذاهبة الى من هم في مصاف تلاميذه. والواقع ان »البروف« كان في طليعة علماء العربية على الاطلاق، ومن اخصب اقلامها وعقولها، وميزه عن رصفائه في علم اللغة استيعابه المتقن للغات الافرنج، ما أهله لعقد المقارنات عن علم وتجربة، وليس عن جهل وتعصب.

يقول رحمه الله وارتضاه: »وقد قلبت نظري في كثير من الدواوين العربية والانجليزية واستقر في نفسي بعد الموازنة ان الشعر العربي ليس كمثله مما قرأته في الانجليزية شيء، حتى ولا شعر شكسبير. وقد ذكر استاذنا الدكتور طه حسين، في كلمته عن الطبعة الاولى من »أصداء النيل« (أحد دواوين »البروف«) التي نشرتها جريدة »الجمهورية« ثم ضمنت من بعد في كتابه »من أدبنا المعاصر« في معرض الاشارة الى هذا الذي سبق من حديثي عن الشعر العربي انه من باب شدة الافتتان به، ولا أدفع ذلك.. غير اني آخذ على الشعر الانجليزي في الذي اطلعت عليه منه ـ وأصناف الشعر الأوروبي غير بعيدة المذهب عنه ـ التطويل وضعف النغم وكثرة التفصيل والتفريع« وذلك رأي ـ مهما قلت فيه ـ لا تهيّب فيه من تفوق أوروبا الحضاري.

ولكن »البروف« لم يكن متنطعا ولا من المستقتلين في الذود عن التراث، وقد أخذ نفسه بمذاهب من التجديد انتهت به لفترة وجيزة في احضان القصيدة التفعيلية، ولكنه استقبل حماس التفعيليين لذلك باستنكار شديد، نافيا عن نفسه الميل الى مذهبهم، ورافضا تتويجه اميرا على الاتجاه الشعري الجديد. وتفصيل ذلك انه نشر قصيدته الجليلة »الكأس التي تحطمت« في ابريل/نيسان 1946 والتي كان يمكن ان تضعه بين المتنازعين على أبوة الشعر التفعيلي الحديث جنبا الى جنب مع نازك الملائكة ولويس عوض، لولا انه استنكر ذلك وأباه. تقول القصيدة:

»أترى تذكر لما ان دخلنا الفندق الشامخ

ذاك الفندق الشامخ في »ليدز«

ذاك الرحب ذاك الصاخب الصامت

ذاك الهائل المرعب إذ كنا معا

أنت واليانوس والأخرى التي تصحب اليانوس

والأبصار ترمينا بمثل الرشقات

وسهاما حانقات

ثم لا انسى إذ الكأس رذوم،

وإذا الجو حديث ورنين

وإذا التبغ على النور دجون

وإذا الناس جليس وأنيس ونديم

كيف خر الكوب ذاك المترع الملآن للأرض وسالا

وهوى منكسرا منفطرا

واكتسى وجهك بالدهشة لونا واستحالا

ذهبت كأسك كالوهم وسالت

في الفندق العامر ذاك الفندق الشامخ وهوت

دوت فيه صالت

ذهبت كأسك كالوهم وعزاك الصحاب«

والواقع ان له قصائد عدة على ذلك النهج، بينها قصيدة للندن كتبها في ديسمبر/كانون الاول 1945. يقول فيها:

هذه لندن إذ نحن صرنا

من بني لندن فلترو عنا

يوشك اللب بها ان يجنا

هي كالبحر وأمواجه من

انفس فارحة أو تُعنّى (بالبناء للمجهول)

ومن أطرف مقاطعها تعليقه على جميلات المدينة وعدم مبالاتهن بأعين الناظرين:

واثقات الخطو لا هائبات

لا يبالين هل الطرف عفا

إذ رنا أم لم يعفا

وكان »البروف«، وهو عروضي متمكن، يسعى للتجريب في اطار البحور الخليلية راميا الى توسيعها وتطويرها، وليس الى إلغائها كما فعل التفعيليون او انتهوا بالقصيدة العربية الى ذلك غير قاصدين. له في ذلك الاطار محاولات لتطويع النظم العربي ليستوعب بحورا كتب فيها الشعر الشعبي خفيفا صالحا للغناء. ويبدو انه فتن بأغنية شعبية عن السمسم الذي ينتج في مدينة القضارف (وهي تورية عن المعشوق) فكتب على نهجها بالفصحى.

واستقصى الوزن الذي جرت عليه الى اشعار الجاهليين وأسهب في صفة ذلك في كتابه »المرشد الى فهم اشعار العرب وصناعتها«. وكان الشاعر المجيد أمل دنقل مغرما بذلك الكتاب ويزور دار الكتب المصرية يوما بعد يوم ليطلع عليه، فقد كانت طبعته نفدت من الاسواق.

ترك عبدالله الطيب تراثا شعريا ضخما بدا للمرة الاولى أمره للنقاد فاكهة برية خشنة كالتين الشوكي. لكن شعره راح يرق ويصفو وفي دواوينه المتأخرة كتب للكلاسيكية السودانية شعرها المتفوق في نهايات القرن العشرين، من امثال:

يا دار مية ذات المربع الشاتي

بين الربى والرياض السندسيات

وقد تعلمنا آنذاك ان نحبه ونفخر به ونستحلي روح الفكاهة التي توافرت لشعره، في حين علا وجه القصيدة التفعيلية قطوب وجهامة وعبوس.

تحلى البروفيسور عبدالله الطيب بخفة الروح، ومن صفاته الأصيلة حب الفكاهة وكان ـ رحمه الله ـ يسرد فكاهته بوجه وصوت جاد كأنما لا يشعر بما تنطوي عليه من القدرة على الاضحاك، فيزيد ذلك متعة السامعين، وهو طابع في الفكاهة قريب الى طبيعة اصهاره البريطانيين، ومنهم زوجه الوفية الفنانة المرهفة »جريزلدا الطيب«.

وشعره ونثره مملوءان بالملح والطرائف بما يجعل الغوص في تراثه نوعا من التفكه والتسرية عن النفس، كما هو سبيل الى الافادة من علمه البارع المتقصي. وكل ذلك ما يزيد من الحسرة لفقده. فقد كان ـ رحمه الله ـ لؤلؤة المجالس، وقد احتشد بالعلم والتجارب، وحفظ عن الدنيا مفارقاتها المضحكة والمؤسية، وصار كنزا قوميا خطفته من أيدينا يد المنون.

ويزيد من ألم الفقد انه لم يكن حفياً بالصحافة ومحاوريها قليلي الخبرة والعلم، إذ كان بطبعه يستنكف مجالسة الجهلاء والمتعالمين، وأذكر جلسة له مع الشاعر الراحل نزار قباني في زيارة له الى الخرطوم عام ،1968 فقد ظل صامتا والناس من حوله تهرف بما لا تعرف في حضرة الشاعر العربي المجدد.

وكان له في سلامة لغته رأي بدا له من حسن الضيافة ألا يجاهر به.

علم »ضخم« بغيابه نغدو أفقر وأقل شأنا. بحر زخار برحيله نزداد جهلا وسوء حظ.. بسمة في جبين الأيام المكفهرة بذهابها نزداد جهامة وقطوباً.. زاد السودانيين في المهجر وأنيس ارواحهم. أليس هو القائل: »لم يبق شيء من سودان الأيام الغابرة فعسى ان يكون سودانيو المهجر »تيرابا« لسودان جديد«. و»التيراب« هو البذور التي يدخرها المزارع من محصول عامه ليستزرعها في قادم المواسم.

وسلام عليك في الخالدين أيها الطيب سلالة الطيبين.

نشر الأستاذ الراحل محمد المكي إبراهيم هذا المقال بتاريخ 24 يوليو 2023م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى