خالد موسي دفع الله
كان ليلا مضطربا، ووجوه الموتي تمر على كالسحاب، وأنا بين غفو وصحو، حتى أدركت أنه حلم من مملكة الإشارات حيث الصراع بين معارج الروح و أوشال الطين. حتي عاجلني خبر موتك الفاجع، ومثلك كانت تستوى له سيقان الحروف وتنحى له القوافي، و كنت صبورا جلدا و المرض قد غاص في كل مسام الجسد حتي ذهبت الى الله جزءا فجزءا.
أتيت الى الدنيا على قدر، وأنت متوشح بتاريخ آل المجذوب في العلم والسماحة والأدب و قول الشعر. ومضارب آل الازرق في القضارف قبس من نار المجاذيب تهوي إليهم أفئدة من الناس في طلب العلم والقرآن. كان يمكن أن تكون شيخا متلفعا بالثوب في مدارج العلم وتقابة الخلوة، أو تاجرا منتفخ الجيوب يكنز المال ويحلف بالطلاق فى سوق القضارف تحصد السمسم وتغني له بصوت مشروخ، لكنك إخترت طريق المكاره.إذ كانت وزارة الطاقة وأنت خبير الإقتصاد هي أول الطريق، وجاءت فترة التحصيل والدراسة لدرجة الماجستير في نيويورك ووسكنسون في أمريكا، وكنت حتى ذاك الحين مشغول بالتحصيل و ترتيب الأسرة. ثم إخترق فؤادك ذلك السهم السحري، وهموم المجتمع والعمل العام. فلبيت النداء قافلا الى السودان ملتحقا بالسلك الدبلوماسي.
لم يكن قدرك أن تمشى في الظلال، تغلق الملفات، وتطفئ نور المكتب وتحمل البطيخ والصحف في الثانية والنصف ظهرا تبتغي الراحة في منزلك وبين أسرتك. لكن روحك القلقة والتواقة للمجد و المنافحة عن الوطن كانت تحلق كالنحلة بأزيز ورحيق فواح. كنت تقدح الذهن و ترهق الجسد و تقدم المقترحات وتكتب الأوراق وتشترك في عضوية اللجان المتعددة، والسودان كان محاصرا حين مسغبة. لم تكن تبحث في اللوائح عن لعاعات الخدمة من إجازة، ونثرية لجان، بل كنت وقافا عند الحق ، قويا في الأخذ بالعزائم. وكان ذلك أسلوب غريب على من هم فى درجتك ورتبتك الدبلوماسية.
كانت الهمهمات تسرى في أروقة الوزارة عن ذلك القصير و المفوه الذي يشتعل نشاطا و يتحدر كالسيل قوة في الموقف. عندما كانت المرتبات مثل نقرات الطائر الفزع كان يمد يديه ويقول فليأخذ كل منكم ما يكفيه. كان حاتم عصره في الكرم، إذ كان ينفق بيمينه ما لا تعلم شماله. وكانت كثير من مستحقاته المالية تنفق علي الفقراء والعمال لا يسأل عنها.
من كان يصدق أنه عندما عاد من لندن كان يسدد أقساط بناء منزله للبنك العقاري، ولم يكن ذلك عن مسغبة ولكن عادة الكرم التي تفنى كل مدخر، إذ ظل ينحر الحاشى لكل ضيف وزائر. كما رفض أن يأخذ إمتيازات درجة الوكيل إذ يملكه القانون السيارة التي كان يستخدمها، فتركها في مكانها وغادر الى بيته. و الاغرب حقا أنه كان يدفع حوافز ما بعد ساعات العمل للعاملين معه فى إدارة الشؤون العربية من جيبه الخاص، عندما ضاقت اللوائح عن الوفاء بذلك. إذ كان لا يتوقف عن إنجاز العمل مهما كلفه ذلك من رهق أو مال.
كنت دبلوماسيا يافعا في إدارة الإعلام وكان هو الرجل الثانى في ترتيبها. وجدته مشغولا بكتابة تصور صندوق التكافل، ثم أقنع به قيادة الوزارة التى إشترطت عليه صيغة ( المنفلة) وهى أن يتم توزيع المبالغ بالتساوي بين كل الفئات لا فرق بين سفير و خفير. لكنه أقنعها بنسبة الإستقطاع حسب الدرجات تحقيقا للعدالة. وعندما رفض البعض المشاركة فى الإستقطاع ومنهم شخصيات معروفة، أصدر من قيادة الوزارة أمرا أن تكون المشاركة ملزمة للجميع إلا للمنتسبين من وزارات أخري. ويعتبر صندوق التكافل صدقة جارية لروح عبد الله الأزرق إذ أغاث الملهوف وستر العانى وأقال عثرة المكلوم وسد الدين و زرع البسمة في ثغر المريض، بروح تكافلية خلاقة. وأدى دوره فى مسغبة اللجؤ والمنافى والنزوح.
ترك الراحل عبد الله الازرق في كل مكان عمل به بصمة قوية لا تمحى، في نيروبي، واشنطن، بكين، صوفيا ولندن. يحفظ له قادة الحركة الشعبية في نيروبي أثناء حرب الجنوب ذلك البعد الإنساني الفريد، في تقديم الخدمات القنصلية لأسرهم، ومساعدة ضعيفهم و حل مشاكلهم. وترك ذلك أثرا في تغيير الصورة النمطية عن المندكورو الشرير والغادر.
وساهمت تلك المناقب في تعميق الصلات الشخصية التي كان لها دور أثناء إنفاذ اتفاقية السلام الشامل.
كان نشاطه الأبرز في لندن، إذ كانت صداقاته الانسانية عامرة وعابرة للحدود، وكان شاعر مجلس السفراء العرب يطلبون منه القصائد فى مناسباتهم المختلفة، فتخرج سائغة بيضاء من غير سوء.
رغم متاعبه الصحية التي ظهرت باكرا إلا ان عطاؤه لم يضعف و إبداعه الادبى لم يجف بل ظل يورق على شجرة الحياة بكل جديد.
كان كثير المعارك فيما يراه حقا، لم ينتصر يوما لنفسه، كما كان دقيقا صارما في تقييم عمل مرؤسيه. و يمحضهم النصح فيما يجب أن يحسنوه، وجلب له ذلك همهمات وربما خصومات. فهو طورا في معمعان ولجة وطورا جذلان راضيا، لكنه كان لا يتراجع ويقول أريد أن تكون هاماتهم فوق الثريا من أجلهم وليس من أجلى. و تلك مدرسة لها تاريخ في وزارة الخارجية كان عرابها الوكيل الأسبق محمد عثمان يس وخليفة عباس و حارس بوابتها السفير عوض الكريم فضل الله، ورغم صرامته المهنية لكنه كان طيفا من الإنسانية النبيلة وفيضا غامرا من المكرمات و الكرم الفياض.
وهو أفضل من وصف نفسه في قصيدة كعبة المضيوم التي كتبها في مدح سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثانى أمير دولة قطر.
ويا صَاحِبَيْ إنيِّ عَزيزٌُ مُكرَّمٌ
وإنيِّ أبِيٌّ وصَعْبٌ قِيَادِيَا
فَطَوْرَاً تَرَانِي في عِرِاكٍ ولُجَّةٍ
وَطَوْرَاً أسُوقُ الجُرْدَ جَذَْلانَ رَاضِيَا
«وَطَوْرَاً تَرَانِي في ظلالٍ ونِعمةٍ»
أُضَاحِكُ سَلْمَى والحِسانَ الرَّوَانِيَا
وما كُنْتُ مَدَّاحَ الرِّجالِ ولم أكُنْ مَعِيبَاً. تَعْرِفَا ما مَكَانِيَا.
عندما كانت علاقته بأحد الوزراء مضطربة، هوت به السيارة من أعلى كبرى شمبات على جرف النيل، فإنكسرت يده، وعاده ذلك الوزير في المشفى مطمئنا متسائلا عن عدائه غير المبرر وكتابة المقالات ضده، فقال له بين الضمادات وتأوه الألم لقد إنكسرت يدي التى أكتب بها، لكن لسانى ما يزال طليقا ذربا. هذا الصدق في المواقف، جعل ذلك الوزير بعد سنوات طوال وبعد أن تعمقت علاقة الصداقة الأخوية بينهما، يقف في صف المتبرعين بالكلية لعبد الله الأزرق.
المتأمل في حياة الراحل عبد الله الأزرق العامرة لا يستقيم له ميسم البحث حتى يقف على تراثه الإسري من آل المجذوب وآل الأزرق في العلم والقرآن و الشعر. وكذلك أبعاد شخصيته الإنسانية، و سيرته المهنية و شخصيته الشعرية و الأدبية. فهو مثقف وكاتب وشاعر.
السفير عبد الله الأزرق لم يكن شاعرا مهوما في وادي عبقر، يكتب لحفيف الشجر وشروق الشمس والخد الأسيل، كما لم يكتب الشعر أسترزاقا أو إستلطافا، ولم يهجو ويمدح لآصرة شخصية،لكن يفعل كل ذلك لموقف وهدف. كان يكتب بحد السكين كما قال الشاعر عبد الباسط سبدرات، أو انه يكتبه لموقف وجودى كما قال محمد عبد الحي. ولعل قصيدته في مدح الناها التى سارت بذكرها الركبان لم تكن غزلا كما زعم البعض أو نسيبا كما قال الشاعر السفير محمد الطيب قسم الله. لكنها كانت موقفا مراسميا، إستدعته مطلوبات إستقبال وزيرة خارجية موريتانيا بما يحبه شعب الشناقيط وهو الشعر والقوافي. وتعود القصة أن السفير الراحل وكان مديرا للإدارة العربية في وزارة الخارجية قد أستقبل نظيره من وزارة خارجية موريتانيا في إطار التحضير للزيارة. فقال له الضيف الزائر وكان شاعرا إنه سيلقى قصيدة في حب السودان، فأقترح عليه السفير الراحل الأزرق أن يكتب كل منهما شطرا فى البيت الواحد. فجاءت القصيدة على النحو الذى سمعه الناس. وعمل الأزرق بحكمة العرب بأن يستقبل الناس بما يحبون وأهل موريتانيا يحبون الشعر. ورغم الهدايا المادية القيمة التي أهديت للوزيرة الناها إلا انها أصرت علي تزيين صالون بيتها فى نواكشوط ببعض أبيات قصيدة الأزرق لأنها الأبقي علي مر الدهور والأزمان.
