عبد اللطيف مجتبى يكتب..
ديباجة:
وأنت في طريقك نحو البدايات الجديدة والاختلاف، لابدّ لك من خيال جامح، وذاكرة حبلى بالمفارقات واللامنطق، بل لا بدّ لك من براءة تحمل جناحيك كفراشة تهوى إلى نارها في محبة ووداعة مفرطة، دون تفكير في المآلات، ذلكم هو زاد الولوج لعوالم الكتابة ومطالع القصيد عند الشاعر جمال حسن سعيد الذي (يرضع من ثدي الأسرار البوح)، في لغة تترسل من عوالم الطفولة وتحقن من معين زاخر بالرؤى الناضجة والثقافة والمعرفة والعرفان والفلسفة تأمل:
تعرفي يا حبلى ؟
وبترْضَعِي من ثدي الأسرار البوح،
أنا واقف منتظرك،
وبرسِّل ليك في الروح،
ويجيني الرد – من ظنك –
يعتب ومجروح ….
فبقليل من الإمعان في هذا الملمح من الخطاب الشعري تجد أنك تمخر في عباب أنهار من البراءة المتدفقة، وتمتطي صهوات أمواج متلاطمة من فيوض الطفولة، فبين الرضاعة والأسرار والبوح والرجاء والانتظار العبثي الذي لا يلوي على شيء تماماً مثل انتظار غودو لصمويل بيكيت؛ ذلك المنتظَر دون جدوى، وبين خيبة الإياب وعودةٍ الٓردِٓ مثخناً بالجراح والظنون، تتحول عوالم النص إلى فضاءات شعرية تضج بالاحتمالات والرمزية الآسرة ليغادر النص ذلك المشهد البريء الطفولي، ويتبدى مجال مفخخ بالأسئلة المفتوحة على كل الجهات.
* كما أن الاستهلال في مجمل التجربة عند جمال ينبثق فجأة من ذات المظان التي لا تعرف التوطئة أو المقدمات التي تؤسس لسبكة النص وعوالمه الشعرية فالنص عنده يبدأ حيثما أشرقت روح التجربة الوجدانية والحالة الشعورية وما أملته عليه لحظة الإلهام التي تقوده مباشرة لافتتاح النص كما في:
أظنك عرفتي؟
عواصفك مهبي .
فهو لم يكن استهلالاً قائماً كلياً على السؤال فحسب بل جاء مردوفاً بإجابة: عواصفك مهبي . تلك الجملة الصادمة التي تنبع من ذات العالم البريء -عالم الطفولة – الذي يكون فيه السؤال التقريري السمة، مفتاحاً للمحبة والمؤانسة .. فبهذا المفتاح الصادم والبريء – في آن – يوغل الشاعر في الولوج إلى عوالم منفتحة، غارقة في المجازات واللغة (المعلولة) التي يصير عندها عالم النص مثل ساحة حرب وضعت أوزارها للتو :
أظنك عرفتي ؟
عذاب المغني
وطبله المجدع
شظايا التمني
… إلخ
مسرِّج خيالك حصاني القبيل
معربد غباره وخلى الصهيل.
وكذلك في افتتاح آخر يمكن أن تغرق منذ الوهلة الأولى للنص في عالم من الفانتازيا التي تغيب معها فكرة الاستهلال والابتداء فتجد أنك فجأة ماثلاً أمام حلم و زمن آخر:
فاتح شبابيك في النوم
ومُطِل على وادي نعاس
انا شفت لهات الشمس
بِتْنَقِّطْ أنناس،
وحراز بصالح المطرة .
وشفت كمان الشجرة بتقَبِّل في الفاس،
والكون بيصافح في المطلق،
وعادي ،
وبي غادي
سحابة بتتمشى في شارع فاضي…
كما يمكن أن تلمس ببساطة في كل عوالم جمال الشعرية ملامح ذلك الرهان على الصدق كما يصرح بوضوح عن ذلك :
سافر في ظنك والشك
عاين في مراية بتلقاني
الصدق الأجمل من وشَّك …
يتبع ……….
* ديوان أظنك عرفتي للشاعر جمال حسن سعيد