عادل الباز يكتب: الحوت.. كيفك يا خال؟!

(بمناسبة الذكرى الحادية عشر لرحيله)

فيما أرى

 أذكره بسؤاله أعلاه الذي كلما لقيني عاجلني به: «كيفك يا خال؟».. كان محمود إنساناً معجوناً من طين محبَّة خالصة، لا أزال غير مُصدِّق أنَّ ذاك الطفل اليافع النحيل الذي حملناه على أكتافنا قد استطاع جذب قلوب الملايين، واستدرَّ دموع الشعب السُّوداني كفنان كبير ومحبوب. كم كُنتُ جاهلاً بقدر هذا الفتى ولم يكن أحد فينا يتوقع أن تبلغ محبَّة محمود في نفوس السُّودانيين ما بلغته في حياته، وحين ودَّع الفانية. كان يوم شكره عُرساً مشهوداً.. “الموت يا جليس الحضرة كاساً دائر.. سماحتو عليك زي يوم العريس الساير”.. لم يكن محمود فناناً مبدعاً فحسب، بل كان إنساناً بحق وهذا ما وهب تجربته عمقها ومنحه محبة الناس.

 لم أرَ محموداً في حياتي إلاَّ باسماً على الرغم من العواصف ومحاولات التشهير التي لازمته في حياته الخاصة وتجربته الفنيَّة. كنتُ ألتقي محمود لِماماً بعد أن صار نجماً في سماء الفن، ولكن ما لقيته إلاَّ أحسستُ بتلك الحنيَّة التي فاضت عليه بها أمه، فائزة بنت محمَّد طاهر.. الرجل الذي كان بيته بالمزاد أحد مراتع صبانا وأيام صفانا. خالان من الأسرة الصغيرة كانا وراء إبداع محمود، هما: الرَّاحل الفنان الممثل القدير والإذاعي النابه الطاهر محمد طاهر، أو كما كنا ندعوه “أمير”، شآبيب الرَّحمة على قبره. والثاني هو صديق عمري وخاله أمين محمَّد طاهر الذي رعى تجربته منذ أن كان يافعاً وحتى آخر لحظة في حياته.

أوَّل مرَّة استمعتُ فيها لمحمود في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان في جلسة بمنزل الأسرة بالمزاد، عزف فيها أمين لمحمود وصدح فيها الحوت “مرَّت الأيام”. أمين هُذا هو من كتب ذكرياته مع الحوت في حلقات متسلسلة في الخرطوم وهو أفضل من كتب تاريخ الفتى الفنان وكيف لا وهو راعي تجربته، وهو الخالُ العطوف، وهو كاتب ذو عبارة سلسة، وممثل مسرحي قدير وشاعر غنائي. ولولا أنَّ الدُّنيا حظوظ لكان أمين أحد الذين يُشار إليهم بالبنان في خريطة الفن السُّوداني.

قال لي أمين إنَّ محمود غنَّى لأغلب الفنانين المشاهير إلاَّ ودَّ الأمين وعُثمان حسين، ومحمود يهوى الغناء بالعُود، وودَّ الأمين وكابلي هُما من أروع من عزفا على تلك الآلة في تاريخ الغناء السُّوداني، ثم إنَّ غناء الحوت مشحونٌ بالشجن، فكيف لم يُغنِّ لعُثمان حسين وهو المُغني الذي أخرج من صدور السُّودانيين المُحبين والعاشقين آهاتهم ولأجيال طويلة، ولا يزال صوته الشجي يواصل فعله المُبدع. كان تفسير أمين أنَّ محمود تجنَّب أغاني هذين العملاقين بسبب كونه خليطاً مبهراً لتجربتيهما في الموسيقى: “ود الأمين”، واصطفاء الكلمات الشجية للغناء، “عثمان حسين”. إلاَّ أنني أعتقدُ أنَّ محموداً نسيجٌ وحده، كتب تاريخاً جديداً للغناء الموسيقي في زمنه، وكان تعبيراً أتمُّ لرُؤى وطريقة جيله في الغناء، ولذا أصبح فنانه بامتياز، إذ لم يبلغ أيُّ من الفنانين من جيله مقامه الفني والأدائي وجماهيريته.

محمود أطلَّ على الدُّنيا في أواخر الستينيات فكأنَّ أجيالاً من الفنانين أودعت خلاصة تجربتها الفنية في التلحين والغناء في حنجرة “الحوت” ليُعبَّر بها إلى جيل جديد، وقد فعل بإحسانٍ عظيم. قلتُ من قبل إن محمود ونانسي عجاج وآخرين – بالطبع – استطاعوا بأدائهم المميَّز والمُبدع أن يُجسِّروا تجربتنا الغنائيَّة بين أجيالٍ عديدة، ويمدوا أجمل إبداعنا الغنائي بطاقة جديدة، تهبه حياة إضافيَّة.

 أستمتع هذه الأيام بقراءة الجُزء الثاني من كتاب “تاريخ الموسيقى والغناء” لمعاوية يس، الذي قدَّمه مركز عبدالكريم ميرغني للمكتبة السُّودانيَّة، وهو سِفْرٌ يستحق أن يُقرأ بعناية. رحم الله محمود ورفعه عنده في مقام يستحقه.. لم يضُر محمود إنساناً في حياته قط.. حصَرَ ضرره في نفسه.. والله يغفر لمن يشاء.. فاز “ابن فائزة” بمحبَّة الناس، وهي عنوان القبول.

Exit mobile version