رأي

عادل الباز يكتب: أسواق دقلو

فيما أرى

(١)
عرف السودانيون في حياتهم من قبل “أسواق الحرامية” وهي أسواق كانت منتشرة في أطراف المدن ويرتادها عادة السُّراق وطالبوا البضائع الرخيصة، وكان المشترون يذهبون إليها على استحياء متلصصين يخشون أن يراهم أحد من معارفهم، في ذلك الزمن السمح كان عيباً أن تُرى في تلك الأماكن تماماً كما تُشاهد مصطفاً أمام بيوت الدعارة التي كانت تفتح أبوابها عياناً بياناً في قلب المدينة والغُبش واقفين صفوف (شآبيب الرحمة تتنزل على قبرك يا أب عاج).
من أهم خصائص تلك الأسواق المتعددة أنها تعرض البضائغ القديمة، وغالباً ما يكون ويندُّر أن تجد بضاعة جديدة، كما أن تلك الأسواق بضائعها مفردة، فحرامية ذلك الزمان يسرقون بالقطاعي ويبيعون مسروقاتهم على عجل بالقطاعي أيضاً وذلك فرق كبير بين تلك الأسواق وأسواق دقلو المفتتحة حديثاً في قلب العاصمة، وفرق كبير بين حرامية تلك الأسواق وبين كِسّيبة الجنجويد، وستتعرفون على الفروقات في متن المقال أكثر.
(2)
متى وكيف نشأت أسواق دقلو؟ يقول التاريخ القريب والغريب أن تلك الأسواق قد افتتحت في الشهر الأول من عدوان الجنجويد وحربهم التي شنُّوها على الشعب السوداني بكل أطيافه.. وهذا لأول مرة تحدث في كل التمردات السابقة حين كانت الحروب تدور فقط بين المتمردين والجيش، ولكن هذه الحرب شنَّها المتمردون على الجيش والشعب في آن معاً، وكان هدف شن الحرب على الجيش هو سرقة السلطة، فيما كان هدف الحرب على الشعب “شفشفة” كل شيء منه حتى تاريخه.
فشل كِسِّيبة الجنجويد حتى الآن في شفشفة السلطة، ولكنهم نجحوا بتفوق في هدفهم الثاني، إذ استطاعوا بمقدرة فائقة سرقة كل شيء وصلت إليه أياديهم الآثمة وأشهد أنهم كانوا عادلين جداً في حملات النهب التي قاموا ويقومون بها، إذ عدلوا بين الفقراء والأغنياء في الشفشفه، وساووا بين سكان القرى والكنابي الفقراء وأصحاب الأبراج العالية في العمارات وكافوري ونمرة2، وذلك تمهيداً ومقدمات لدولة العدالة والديمقراطية التي يعملون على ترسيخها بمشاركة (تقدم) وتلك واحدة من ملامح بشائر مملكة دقلو/تقدم القادمة. يابشرانا بالعهد الجديد.!!.
بعد أن نجح (الثوار/ الكسيبة) في تحقيق هدفهم الثاني جامعين ما لا يحصى من الأموال والذهب وكل ماخف وزنه وغلا ثمنه وشحنوه على ظهر العربات المسروقة إلى المدن البعيدة، تبقت غنائم كثيرة غنموها من حربهم ضد المواطنين ليس ذات جدوى اقتصادية لتسافر كل تلك المسافات البعيدة، ففكر الكسيبة ثوار الجنجويد بحلول داخلية وأسسوا أسواقاً داخل المناطق التي يسيطرون عليها بالعاصمة، بغرض بيع تلك الغنائم في أسواق معلنة ومعلومة حتى يتم التخلص منها سريعاً لمواصلة مهمة القتال لسرقة السلطة والسعي لشفشفة ما تبقى للمواطن.
وبالفعل نُفذت الفكرة العبقرية وتم اختيار الإسم بعناية، أسوق دقلو.. ياله من إسم جاذب، ماركة تجارية لا تنافسها حتى أسواق هاوردز بلندن، وتم افتتاحها تحت رعاية وحماية القيادات العسكرية وقادة المناطق الذين لهم في الغنائم نصيب.
منذ ذلك الحين انطلقت تلك الأسواق في تسويق كل البضائع المسروقة من المخازن وكل المعدات التي سرقت من المستشفيات وكل الأجهزة التي سرقت من المصانع وكل الأثاثات، الدولاب والملابس حتى الملابس الداخلية معروضة في أسواق دقلو (المافي شنو). باختصار كل شيء مسروق معروض. تمددت تلك الأسواق في مناطق مختلفة في العاصمة وأصبح يرتادها الناس عياناً بياناً ويبيعون ويشترون بحماس ويتحدثون عن رخص البضائع وجودتها، بل وجدِّتها وهذا فرق مهم بينها وبين أسواق الحرامية التي عرفت بأن بضائعها قديمة، ولكن في أسواق دقلو فإن الكسيبة من الجنجويد ينهبون من المصانع ودكاكين التجار ولذا بضائعهم تتسم بالجدة والسعر الرخيص “ماضاربهم فيها حجر دغش”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى