طريق السودان الطويل نحو السلام: دعوة للوساطة الإقليمية والانتقال الديمقراطي

د. ألدو أجاي دينق أكوي

منذ استقلال السودان عن الحكم الثنائي البريطاني–المصري عام 1956، ظلّ البلد غارقًا في دوامة من الصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية التي استنزفت موارده وعمّقت انقساماته. واليوم، تمثّل الحرب الدائرة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) أخطر الفصول وأكثرها دموية في تاريخ السودان؛ حرب تهدّد بتمزيق ما تبقّى من النسيج الوطني.

تاريخ من الصراع والسلام الهش

منذ لحظة الاستقلال، طبع التنافس بين التطلعات الديمقراطية وطموحات العسكر مسيرة السودان السياسية. فلم تدم الحكومة الديمقراطية الأولى التي أُعلنت عام 1956 طويلاً، إذ أطاحتها سلسلة من الانقلابات العسكرية أعوام 1958 و1969 و1989، وأخيرًا 2019، ما أدى إلى إجهاض كل محاولات التحوّل المدني وترسيخ هيمنة المؤسسة العسكرية.

وكان أطول هذه الصراعات وأكثرها عنفًا الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1955–1972 ثم 1983–2005)، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005، ممهدةً لانفصال جنوب السودان عام 2011. لكن السلام ظلّ بعيد المنال عن السودان نفسه؛ فقد فجّرت أزمات دارفور (منذ 2003)، وجبال النوبة والنيل الأزرق، فضلًا عن انتفاضة ديسمبر 2018، هشاشة الحكم المركزي والحاجة الماسّة إلى إصلاحات جذرية وحوار وطني شامل.

اتفاقية جوبا للسلام: فرصة ضائعة؟

بين عامي 2020 و2023، لعب رئيس جنوب السودان سلفا كير دورًا محوريًا في استضافة الحكومة الانتقالية السودانية وفصائل المعارضة المسلحة بجوبا، ما أفضى إلى توقيع اتفاقية جوبا للسلام. شكّلت الاتفاقية حينها إطارًا واعدًا لمعالجة قضايا تقاسم السلطة والثروة، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإعادة ترتيب أوضاع المناطق المهمّشة تاريخيًا، خاصة دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

غير أنّ التحالف الهش بين المكوّن العسكري والمدني انهار قبل تحقيق هذه الأهداف. وفي أبريل 2023، اندلع الصراع الدموي بين البرهان وحميدتي، ليتحوّل إلى حرب شاملة دمّرت الخرطوم وأجزاء واسعة من دارفور، وأدّت إلى مقتل الآلاف وتشريد الملايين داخليًا وخارجيًا، لتتحوّل الأزمة من مأساة وطنية إلى كارثة إنسانية إقليمية ودولية.

الحاجة الملحّة لوساطة إقليمية فاعلة

مع فشل المبادرات الدولية في وقف القتال، تبرز الوساطة الإقليمية باعتبارها الخيار الأكثر واقعية لإنقاذ السودان. فدول مثل مصر، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وتشاد، وليبيا ليست مجرّد جيران، بل هي أطراف معنية باستقرار السودان ومصيره. والأهم، أنّ بعض هذه الدول تمتلك خبرات دبلوماسية مهمّة:

مصر: بحكم ارتباطها التاريخي والثقافي بالسودان، وموقعها كحاضنة لجامعة الدول العربية.

إثيوبيا: مقرّ الاتحاد الأفريقي، ولعبت دورًا مهمًا في رعاية الانتقال عام 2019.

جنوب السودان: رغم هشاشة أوضاعه الداخلية، أثبتت تجربته في مفاوضات جوبا قدرته على الوساطة الفاعلة.

قيادة إقليمية: نحو وساطة ثلاثية شجاعة

يمكن لقادة هذه الدول الثلاث – الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء آبي أحمد، والرئيس سلفا كير – تشكيل آلية وساطة ثلاثية تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، بمهام عاجلة تشمل:

وقف فوري لإطلاق النار.

إطلاق حوار مباشر بين الطرفين المتحاربين.

إحياء اتفاقية جوبا وتطويرها لتستجيب للواقع الجديد.

تمكين القوى المدنية السودانية من المشاركة في رسم ملامح النظام السياسي لما بعد الحرب.

السودان الذي يطمح إليه الشعب

رغم هول المأساة، يظلّ الشعب السوداني متمسّكًا بحلم السلام والكرامة والديمقراطية. لقد برهنت ثورة ديسمبر 2018 على أنّ السودانيين قادرون على إسقاط الطغيان وبناء وطن جديد. ولن يتحقق ذلك إلا عبر:

وقف شامل لإطلاق النار بآليات تحقق إقليمية ودولية.

سلطة انتقالية مدنية تشرف على إعادة بناء الدولة.

إعادة هيكلة القطاع الأمني بما يضمن جيشًا موحّدًا خاضعًا للسلطة المدنية.

ميثاق سياسي جديد ينبثق عن مؤتمر قومي جامع يضم: الأحزاب السياسية.، لجان المقاومة.،النساء والشباب.،القيادات الدينية.، ممثلي النازحين وضحايا الحرب.

عدالة انتقالية شاملة تضمن محاسبة مرتكبي الانتهاكات خلال الحرب والنزاعات السابقة.

خاتمة: حلول ديمقراطية لاتحاد منهك

لقد عانى السودان طويلًا من خيانة النخب السياسية والعسكرية. ولا يجب أن تكون الحرب الحالية ذريعة جديدة لتكريس الهيمنة الخارجية وتعميق الانقسامات. السلام ممكن إذا كان بقيادة أفريقية حقيقية، وبملكية سودانية خالصة، وبدعم من المجتمع الدولي. إنّ اتفاقية جوبا، رغم عثراتها، تمثّل حجر أساس يمكن البناء عليه لا التخلي عنه.

ما نحتاجه الآن هو مبادرة عربية–أفريقية موحّدة وجريئة لكسر الجمود وإنقاذ السودان من الانهيار الكامل، مع احترام إرادة المدنيين الذين خرجوا مطالبين بالحرية والسلام والعدالة.

يمكن للسودان أن ينهض من جديد، لا عبر فوهات البنادق، بل عبر صناديق الاقتراع، والحقيقة، والعدالة، ودستور ديمقراطي يضمن التداول السلمي للسلطة. لقد حان وقت العمل الآن.

Exit mobile version