ضرورة الظهير السياسي بعد الانتصارات العسكرية : نحو عبور آمن من الحرب إلى الدولة

 أمية يوسف حسن أبوفداية
باحث استراتيجي مختص في شؤون القرن الإفريقي

منذ أغسطس 2024 وحتى يومنا هذا، حققت القوات المسلحة السودانية انتصارات باهرة على مسرح العمليات، وأثبتت قدرتها الفائقة على حسم المعارك في ولايات شاسعة ذات أهمية حيوية واستراتيجية. فقد تم تطهير ولايات الخرطوم، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، النيل الأزرق، ونهر النيل تطهيرًا كاملاً، بنسبة 100%. وهي ولايات تعادل مساحتها مجتمعة مساحات تفوق كل دول الخليج العربي عدا المملكة العربية السعودية، ما يؤكد حجم الإنجاز الميداني والقدرة على استعادة السيطرة والنفوذ الوطني على معظم الإقليم الأوسط من البلاد.

ومع أهمية هذه الانتصارات وضرورتها لبسط الأمن وإعادة فرض هيبة الدولة، إلا أن الحفاظ عليها وتحويلها إلى مكاسب مستدامة تتطلب ما هو أبعد من الإنجاز العسكري. إذ أن الجيوش تحرر الأرض، لكنها لا تبني الدولة بمفردها. هنا تظهر الضرورة الملحة لتشكيل ظهير سياسي وطني، يعمل على حماية الدولة من الارتداد إلى الصراعات أو الانزلاق نحو الفوضى التي لا تزال أدواتها قائمة.

الانتصار العسكري… بداية الطريق وليس نهايته
الحسم العسكري ضروري، لكنه لا يغني عن الحسم السياسي والاجتماعي. ففي ظل تنوع النسيج السوداني، وتعدد الإثنيات، والمطالب الجهوية، والتدخلات الخارجية، تحتاج الدولة السودانية إلى مظلة سياسية متينة ترافق القوات المسلحة في هذه المرحلة الحساسة، وتؤمن انتقالًا سلسًا من واقع الحرب إلى واقع الدولة.
لا يمكن السماح بترك الساحة السياسية فارغة، أو ملأها بأجندات مشروطة أو قوى لا تؤمن بوحدة البلاد. ما تم تحقيقه من نصر، يمكن أن يتبخر إذا لم تتوفر له بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية حاضنة، قادرة على تثبيت الأمن، وترسيخ الاستقرار، وقيادة المرحلة الانتقالية إلى نهايتها الطبيعية: انتخابات حرة، وانتقال سلمي، وبناء مؤسسات دولة قوية.

الظرف الراهن يفرض تحديات معقدة ومتعددة الأبعاد، لا يمكن للقوات المسلحة وحدها التعامل معها، حتى وإن انتصرت عسكريًا. فهناك تحديات على عدة مستويات:

1. الإسناد السياسي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي والديني:

النصر العسكري يجب أن يُترجم في المحافل الدولية إلى دعم سياسي وقانوني، يحتاج إلى أدوات دبلوماسية فاعلة، وخطاب إعلامي موحد، ورؤية ثقافية ودينية متوازنة تعزز من وحدة الصف، وتُفند روايات الأعداء، وتُعرّي حملات التشويه الخارجية.
2. منع الدولة من السقوط في فخ الابتزاز الإثني أو الجهوي أو المسلح:
كلما غابت الرؤية السياسية الجامعة، تسللت دعوات التمزيق والانفصال والانكفاء الجهوي، مدفوعة إما بأجندات خارجية أو بمصالح محلية ضيقة. لا بد من وجود مشروع سياسي وطني يجرّم الابتزاز المسلح، ويرفض التفاوض تحت تهديد السلاح، ويؤسس لمرجعية واحدة في التداول السياسي.
3. العبور من حالة الحرب إلى الاستقرار والإنتاج والنهضة:
الفترة القادمة يجب أن تكون فترة إعادة بناء حقيقية، تبدأ من إعادة الخدمات الأساسية، وتثبيت الأمن، إلى تهيئة مناخ الاقتصاد والاستثمار. ولن يتحقق هذا إلا من خلال قيادة سياسية تمتلك رؤية واقعية، وتكون على قدر التحدي، وتعمل بتكامل مع المؤسسة العسكرية.
4. رتق النسيج الاجتماعي:
الحرب خلفت جراحًا عميقة في المجتمع، وانقسامات، وربما حالات انتقامية وثأرية. يحتاج الأمر إلى جهد كبير في المصالحة المجتمعية، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. الظهير السياسي يجب أن يقود هذا المسار بواقعية، وأن يضع أولويات للعدالة الانتقالية، وتعويض المتضررين، ومنع إعادة إنتاج دوائر العنف.
5. تخطيط الأولويات نحو الانتخابات العامة:
ما لم تكن هناك خارطة طريق واضحة المعالم تنتهي إلى انتخابات حرة ونزيهة، فإن البلاد ستبقى في دوامة الانتقال غير المحسوم. المطلوب هو جسم سياسي يقود عملية كتابة الدستور، وصياغة قوانين الانتخابات، وتحديد الجدول الزمني لإنهاء المرحلة الانتقالية.ليس المقصود بوجود ظهير سياسي أن يكون “واجهة شكلية” أو كيانًا تابعًا، بل المطلوب جسم وطني تتوافر فيه مجموعة من الصفات الجوهرية:

التمثيل الواسع الحقيقي: يشمل كل القوى الوطنية التي لم تتورط في العنف أو الارتزاق السياسي.
الاستقلالية والرؤية: لا يكون مرتهنًا لقوى خارجية، بل ينطلق من رؤية وطنية خالصة.
القدرة على التفاوض السياسي: لتمثيل الدولة في المحافل الدولية، وكسب التأييد والدعم.
التوازن بين القوى: يمنع الاحتكار أو الإقصاء، ويضمن الشراكة الوطنية الحقيقية.
الوضوح في الأهداف والبرامج: خصوصًا فيما يتعلق بالاقتصاد، العدالة، المصالحة، والدستور.غياب هذا الظهير السياسي في هذه المرحلة سيُعيد إنتاج أخطاء ما بعد الثورات والانقلابات السابقة، حيث تسلمت السلطة نخب غير مؤهلة، أو جُعل القرار السياسي رهينة للتجاذبات والصراعات الحزبية الضيقة. وهذا ما قد يؤدي إلى:
عودة الفوضى الأمنية عبر بوابات جديدة.

استغلال جهات دولية وإقليمية لفراغ القرار السياسي.
إعادة إنتاج حركات التمرد بأشكال جديدة.
فقدان ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها.

إن السودان اليوم على أعتاب فرصة تاريخية نادرة، وفرّتها انتصارات عسكرية واسعة النطاق، أعادت الدولة إلى معظم مركزها الجغرافي والإداري. *لكن تحويل هذه الفرصة إلى مشروع دولة مستقرة، منتجة، عادلة، وآمنة، يتطلب توفر قيادة سياسية وطنية شجاعة، قادرة على التفاعل مع متطلبات اللحظة، واستيعاب الدروس، وتحقيق طموحات المواطنين.*

نحن بحاجة إلى ظهير سياسي، ليس ليعبر عن مؤسسة بعينها، بل ليعبر عن الدولة السودانية الموحدة بكل مكوناتها، ويمثلها أمام شعبها وأمام العالم، ويقودها من مرحلة المواجهة إلى مرحلة البناء والنهوض الشامل.

Exit mobile version