صناعة الوجوه وهندسة المنطلقات في كواليس الاستضافات التلفزيونيَّة

خالد محمد أحمد

إلحاقًا بمقالةٍ سابقة عن تعليق تحالف “تأسيس” تعامله مع شبكة الجزيرة بحجَّة تحاملها وتحيُّزها لخصومه، سأتناول هذه المرَّة كيفيَّة إدارة المؤسَّسات الإعلاميَّة (الخليجيَّة) جانبَ المشاركات في الحوارات التلفزيونيَّة لكشف ما قد يخفى على الساسة والجمهور من تفاصيل في هذا السياق.
في عالم الإعلام المرئي، لا شيءَ يُترَك للصدفة؛ فحتى تلك الحوارات التي تبدو عفويَّة على الشاشة تخضع لترتيباتٍ في الكواليس من خلال المذيعين وما يُعرَف بقسم الاستضافات (interview desk)، الذي يشكِّل حلقةً تنفيذيَّة تُرسَم من خلالها خرائط الحضور والإقصاء، وتُهندَس طريقة ظهور الضيوف أمام الجمهور، وخاصةً في الاستضافات المتعلِّقة بالقضايا الحسَّاسة، بما يضمن توافق المحتوى مع أهداف القناة وتوجُّهاتها.
توجد في هذا القسم قوائم مطوَّلة تضمُّ أسماءً من مختلف الدول والتخصُّصات والجنسيَّات، وتُحدَّث باستمرار، وتُراعَى فيها نظريًا اعتباراتُ التنوُّع الجغرافي والمهني والفكري والسياسي. وهناك قائمة مظلمة، وهي قائمة المحظورين، وتضمُّ المعروفين بتوجُّهاتهم المضادَّة للمؤسَّسة الإعلاميَّة أو مموِّلها. وهكذا تُبنَى حدود المشهد الإعلامي ليتناغم مع موسيقى القناة.
قد تبدو البرامج الحواريَّة لكثيرين ملتزمة بالحياد، وتوزِّع الفرص بعدلٍ بين الأطراف للتعبير عن وجهات نظرهم، وتحرص على التنوُّع؛ غير أن ذلك الحياد يكون أحيانًا زخرفًا شكليًّا يخفي وراءه انحيازًا في أداء المذيع، وصياغة الأسئلة، واختيار الضيوف، وتوزيع الزمن بينهم. وقد يُختار ضيفٌ محدود الخبرة ليمثِّل وجهة نظرٍ يريد معدُّو البرنامج أن تُهزَم أمام الكاميرا، فيصبح الحوار مسرحًا للتعبير عن الموقف الذي ترغب المنصَّة الإعلاميَّة في ترسيخه، لا ساحةً لتفاعل الأفكار.
وحين يُستضاف أحدهم أول مرَّةٍ، يُسأل عن الصفة التي يودُّ أن يُعرَّف بها على الشاشة (محلِّل سياسي، خبير في العلاقات الدوليَّة، أكاديمي، ناشط، خبير عسكري)، ويُثبَّت هذا التعريف في قاعدة بيانات القناة ليصبح هويَّةً إعلاميَّةً تُلازمه في كلِّ ظهورٍ لاحق.
تتجاوز القيمة الرمزيَّة للظهور عند بعض المشاركين المقابلَ المادي؛ فهناك من يلهث وراء الأضواء، فيهرع إلى الكاميرا طمعًا في أن تنفتح أمامه أبواب الشهرة، وهناك من يرى في كلِّ لقاء فرصةً لترسيخ موقعه داخل حزبه أو مؤسَّسته، وهناك من يُطلُّ بعينٍ على الجمهور وأخرى على السياسيين طامحًا في منصبٍ أو وظيفة. وفي المقابل، هناك أصحاب مبدأ وقضيَّة، آخر همِّهم الشهرة والمال؛ يدخلون الأستوديو أو يشاركون من على البُعد حاملين قضاياهم بصدقٍ، مؤمنين بأن كلمتهم قد تُحدِث أثرًا في وعي الناس، معتبرين الكلمة مسؤوليَّةً لا وسيلةَ تلميع.
في الكواليس الماليَّة، يتقاضى المشاركون أجورًا تختلف حسب طريقة الظهور؛ فالمشاركة من الأستوديو أعلى أجرًا وأكثر كلفةً للقناة من الاتصال الهاتفي أو المرئي الافتراضي، إذْ تحتاج القناة إلى تأمين وسيلة مواصلات ذهابًا وإيابًا للضيف، إضافةً إلى توفير الوجبات إذا استطال أمد المشاركة. أمَّا الاستضافات العابرة للحدود، فتقتضي تدابير لوجستيَّة معقَّدة تشمل ترتيبات السفر والإقامة والإعاشة. وتتنوَّع مواقف المشاركين إزاء الجوانب الماليَّة؛ فبعضهم يسعى إلى استعجال دفع مستحقَّاتهم، وبعضهم لا يُبالي بها، وآخرون يتنازلون عنها طوعًا قبل المشاركة.
تجدُر الإشارة إلى أن ما ورد أعلاه من ملاحظاتٍ بشأن دوافع المشاركين في الظهور الإعلامي وتعاطيهم مع الجوانب الماليَّة يمثِّل استقراءً شخصيًّا ضمن سياقٍ عام يستند إلى متابعةٍ مباشرة.
ورغم أن لكلِّ مذيعٍ أسلوبه، فإن مسار المقابلات يظلُّ محكومًا بمنطلقات القناة وخطِّها التحريري ورؤية منتج الأخبار (producer)، وهو المسؤول الفعلي عن النشرة أو البرنامج؛ لكنه قد يترك للمذيع إعدادَ الأسئلة وأسلوب التنفيذ بعد تحديد زاوية التناول والميول. وفي كثيرٍ من الأحيان، يتدخَّل المنتج عبر سماعة خاصة تربط المذيع بغرفة التحكُّم (gallery) ليُملي عليه سؤالًا من وحي كلام الضيف، وقد يطلب منه اختصار المقابلة أو حتى قطعها لأيِّ سببٍ من الأسباب. وقد شاهدتُ بأمِّ عيني مديرَ أخبارٍ يصيح في مشرفٍ (duty editor)، ويطالبه بتوجيه المنتج في غرفة التحكُّم لإنهاء المقابلة حين شعر بأن ضيفًا قد سحق محاوره الذي تنسجم آراؤه مع خطِّ القناة.
كما أن اختيار الضيوف ليس حكرًا على المذيع، بل يشارك فيه المنتج والمشرف، وإدارة التحرير. وغالبًا ما يُحسَم أمر اختيار الضيوف في الاجتماعات التحريريَّة اليوميَّة وفقًا للمُعطى الخبري، ويُناقش الأداء عمومًا (إخراج، تصوير، صوت، مونتاج، محتوى، تقديم) خلال اجتماعات ما بعد البثِّ (post-mortems)، ويُحاسَب خلالها المخطئ ويُشاد بمَن يُحسِن.
أما المنافسة بين المذيعين، فهي حامية الوطيس، إذ يسعى كلٌّ لإثبات ذاته والصعود في سلَّم النشرات، ولعل َّ كثيرًا من متابعي الأخبار لا يعلمون أن المذيعين يصنَّفون إلى مراتب، إذْ تُوكَل إدارة البرامج الحواريَّة الرئيسة والنشرات المهمَّة في أوقات الذروة للراسخين منهم.
إذن، حين نفهم آليَّة قسم الاستضافات، فإننا ندرك أن الإعلام ليس مرآةً للواقع، بل آلةٌ لتشكيله. ولذلك، فإن الاختيار المسبَّق للضيوف، وتوزيع الأدوار بين من يُسمَح له بالانتصار ومن يُهيَّأ للهزيمة ليسا تفصيلين عرَضيين، بل جزءٌ من هندسة الصورة. ولذلك، من الضروري أن نفهم أن الإعلام، في نهاية الأمر، ليس ساحةً حياديَّة لتبادل الأفكار، بل منظومة سلطةٍ ناعمة تحاول تشكيل الرأي العام الداخلي والخارجي وفقًا لتوجُّهات المنصَّة الإعلاميَّة المعنيَّة.
24 أكتوبر 2025

Exit mobile version