صناعة الكهوف في الوطن عود لسياسة جنوب السودان 1930: عيسي فرتاك في عين العاصفة (2)

 

عبد الله علي إبراهيم

متى وقع انفصال جنوب السودان في أول العام 2011 القادم فسنكون قد نكصنا بأعقابنا إلى 1930. ففي يناير القادم، سنة الاستفتاء في جنوب السودان، يمر 81 عاماً على إعلان سياسة الجنوب (25 يناير 1930). وهي سياسة قضت بأن يدار الجنوب ليس بمعزل عن الشمال فحسب، بل بتربص لمنع تسرب أي أثر شمالي من إسلام أو عربية.

وجوهر تلك السياسة أن يعتزل الجنوب الشمال في وحدات قبلية وعرقية قائمة على أعراف الأهالي المحلية وممارساتهم العقدية ما اتسقت مع الوجدان السليم. وأهم من ذلك أن ينفتح الجنوب على تأثيرات المسيحية واللغة الإنجليزية بغير حدود. وسينتظر الإنجليز وقتاً في المستقبل تكتمل للجنوب بنيته التقليدية المحدثة لينضم إلى شرق أفريقيا بصورة أو بأخرى.

أعقد ما واجهه الإنجليز في بحر الغزال هو سلطنة إسلامية لشعب الفروقي بها وعلى رأسها عيسى فرتاك. وكان تمسكه بالإسلام سببا لصدامه مع الإنجليز الذين اعترفوا له بحسن تصريفه للعدل في محكمته

 

فواقعة تحدي جماعة هينة كالكارا والبنقا للإنجليز كانت مزعجة وعبثية حتى إنهم فكروا في ضربهم بسلاح الجو. ولما أعيت بحر الغزال الحيلة مع الجماعتين تدخل السكرتير الإداري من الخرطوم واقترح عليهم إعادة رسم الحدود بين المديرتين ليحصلوا على نفس النتيجة وهي وضع البنقا والكارا في بحر الغزال. فإن لم يأت البنضلا والبنقا والكارا إلى حيث أراد لهم الإنجليز فليحركوا الحدود لبلوغ نفس الغاية.

أما أعقد ما واجهه الإنجليز في بحر الغزال فهو سلطنة إسلامية لشعب الفروقي بها وعلى رأسها عيسى فرتاك. وكان تمسكه بالإسلام سببا لصدامه مع الإنجليز الذين اعترفوا له بحسن تصريفه للعدل في محكمته. فقد ساءه ترحيله من موطنه ببلدة راجا إلى خور شمام في إطار الفرز الثقافي والإثني في غرب الغزال لتنقيتها من النفوذ العربي الإسلامي. وكان الإنجليز هددوه بحرق داره إن لم يترك راجا فانصاع، وعادت الإرسالية المسيحية في 1935 إلى راجا بعد ترحيل عيسى عنها.

كما أخذ الإنجليز من سلطانه جماعات مثل الكريش عدها الإنجليز “وثنية” أخذاً أضعف من نفوذ عيسى ومورده المالي. وبدأ الإنجليز في ترفيع مقام الكريش الذين لا يعرف لهم كيان سياسي متماسك من قبل. وكان بعضهم أسلم في خضم تقلبات حياتهم بين أفريقيا الفرنسية الاستوائية وبحر الغزال. ولغلبة الوثنية فيهم اتفق للتبشير أنهم حقل مناسب لشغله وسداً ينهض في وجه التأثيرات الشمالية. وجعلوا لغتهم، الكابلا، لغة رسمية على منطقتهم ومناطق أخرى.

وبلغ من ضيق عيسى بالإنجليز وزحف التبشير إلى شعبه أن طلب في 1931 من أمير مسلم بدارفور أن يؤويه. والتمس من الإنجليز أن يرحل بشعبه إلى دارفور، ولكنهم رفضوا. وكتب إلى المؤرخ محمد عبد الرحيم، الذي كان موظفا بدارفور، أن يحتج عنه للسيد علي الميرغني، زعيم جماعة الختمية، لما يلقاه هو والإسلام في بحر الغزال. وفصله الإنجليز من السلطنة حين تقدم بطلب للحاكم العام لإقامة مدرسة عربية في راجا في 1937، ونفوه إلى دارفور.

لم يكن الإنجليز على قلب رجل واحد حول تنفيذ سياسة الجنوب وإجراءاتها. فقد انقسموا إلى فريق بمركز الحكم بالخرطوم على رأسه ماكمايكل واضع سياسة الجنوب وفريق موظفيه بالجنوب ممن يسمون بـ”بارون البوق” والبوق هي بحر الغزال في الجنوب. وثارت بينهما أبدا خلافات لاختلاف المشارب والتعليم.

فالبارون معظمهم من العسكريين بينما كان إنجليز الشمال من كمبريدج وأكسفورد. فكان ماكمايكل يطلب من البارون ألا ينهضوا بالسياسة فعل جنكيزخان وتيمورلنك في المواضع الكثيرة التي يرى البارون وقد داسوا على البنزين. فهو مثلا حساس للرأي العام الشمالي، فلا يريد لموظفيه فعل شيء بالتجار الشماليين أو بمؤسسات إسلامية تحرك ثائرة الحركة الوطنية الشمالية. أما القبائل التي لا وجيع لها في الخرطوم فهو لم يعرهم كبير اهتمام. كما انقسم الإنجليز إلى إداريين دارفوريين وبحر غزاليين اختلفت آراؤهم جدا حول صفقات تحويل السكان من موضع إلى آخر.

 

عاد

وكان بعض الإداريين ناقداً لسياسة الجنوب لأنها لم تستصحب تنمية اقتصادية تجعلها تمكث في الأرض. ومن هؤلاء ق ل غليوت سميث (مفتش غرب بحر الغزال في 1940) الذي قال مغالياً “إذا جاء العربي للصيد أو للرعي أو الدعوة للإسلام أو للتجارة فهو ناشر للتأثير الشمالي لا محالة”. وتقدم باقتراحات لزيادة طاقم إدارييه لإسعاف الوضع في غرب بحر الغزال. وقال أيضاً “لا يحصنون وضعاً متماسكا في أساسه بل يحيون موات وضع تهاوى، بفضل تسرب العرب والإسلام إلى المنطقة، ويردونه إلى أصله”. وأضاف، تغييراً للمجاز، إن ضخ الماء إلى أعلى التل يستوجب جهداً أكثر من رعاية تدفقها الطبيعي إلى أسفل التل. فالتأثيرات العربية قد أفسدت القناة الطبيعية للتطور القبلي لمنطقة غرب بحر الغزال وأحالته مستنقعا مطلقاً في تهافت الكيان والمعنويات. وزاد بأنهم انتدبوا أنفسهم لمهمة لا مندوحة منها، وهي أن نضخ هذه التأثيرات الفاسدة مرجوعة إلى الشمال من حيث جاءت وتجسير الخرق وموالاة القناة ورعايتها حتى نقع على مخرج حسن. وأزعجت آراء سميث رؤساءه فنقلوه إلى الحبشة في 1941.

وعاد الإنجليز من فنطازيا قسمة السودان عرقياً وثقافياً، وقبلوا أن يستقل السودان موحداً في 1956 بعد إلغاء سياسة الجنوب في 1947. وهي الوحدة التي سينفصم عراها ربما وشيكاً. وبدأت صفوة المؤتمر الوطني والحركة شغل “المناطق المقفولة” للعام 1930، وهو فرز ما لهم مما ليس لهم من السكان في طريق الآلام الذي سنه لهم الإنجليز. وهم قدوة الحكم في سوم غمار الناس شقاء الهجرات اللامجدية لضمان صفاء العرق والثقافة. ولم يبالغ القائلون إن الحكم عندنا لم يتخط الخبرة الاستعمارية، ولهذا نرتجل الوطن ويستقل السودان بدل المرة مرتين.

Exit mobile version