صفحة مجهولة من تاريخ النقود في السودان

 

محمد محمود راجي

نكايةً في الأزهري ، العملة الورقية الأولى اُستبدلت حرقًا قبل طرحها للتداول٠

كثيرٌ من الكتاب والصحفيين والمهتمين بالتأريخ للتداول النقدي في السودان، يجعلون من 15 سبتمبر 1956م تاريخًا لبداية تداول العملة الورقية السودانية الأولى التي حلت محل العملات المصرية التي ظلت هي النظام النقدي المبرئ للذمة داخل حدود السودان منذ احتلاله في عام 1899م، مع بعض القطع النقدية الإنجليزية (الشلن والفلورين).

وهذا خطأ وخلطٌ، فالعملة الورقية الوطنية الأولى بدأ تداولها فعليًا في 18 أبريل 1957م.

ومصدر الخلط، أن التاريخ المذكور كان هو الموعد الذي حددته حكومة اسماعيل الأزهري لبداية تداول العملة الورقية التي تمت طباعتها في إنجلترا، ووصلت إلى بورتوسودان على دفعتين الأولى في 22 فبراير 1956 ، والثانية في 12 يوليو وإرسلت إلى الخرطوم عبر السكة حديد ليُحتفظ بها في خزنة زارة المالية، حتى توزيعها في اليوم المُحدد.

غير أن الأمر لم ينجز، كما خُطط له وذلك لسبيبين:

الأول: عدم اكتمال المفاوضات بين الحكومتين السودانية والمصرية حول حجم العملة المصرية المتداولة في السودان وإجراءات سحبها.

الثاني، وهو الأهم: تلك العملة مُهِرت بتوقيع إسماعيل الأزهري، رئيس الحزب الوطني الاتحادي، ورئيس الوزراء، في مخالفة للأعراف، التي تجعل التوقيع بيد المسؤول المالي الأول.

أثارت تلك الأخبار المتسربة احتجاجات عاصفة وسط المعارضة ممثلة في “حزب الأمة” و”حزب الاحرار الجنوبي”. وخرج (أنصار) حزب الأمة في تظاهرات عاصفة مستنكرة ومهددة بمقاطعة العملة، وعدم التعامل بها إذا تم طرحها، وطالبت بحرقها واستبدالها بطبعة تحمل توقيع المسؤول المالي الأول.

تزامن مع هذه الاحتجاجات سقوط حكومة الأزهري الثانية (الحكومة القومية) التي تشكلت في فبراير 1956، بسحب الثقة منها داخل الجمعية التأسيسية، في 5 يوليو 1956، نتيجة للضغوط الذي مارسه السيدان والانشقاق الحاد الذي شهده “الحزب الوطني الاتحادي” بخروج بعض أعضائه عنه، بدفع من السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية وتكوينهم لحزب “الشعب الديمقراطي” برئاسة الشيخ على عبد الرحمن، وزير التربية والتعلبم.

ونتيجة لهذا الانشقاق فقد “الحزب الوطني الاتحادي” أغلبيته البرلمانية، بما أتاح الفرصة لحزب الأمة، فتقدم بإسناد من “السيدين” عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني والاتحاديين المنشقين، لملأ الفراغ، ليصبح أمينه العام “عبد الله خليل” رئيسًا للوزراء، وكان قبلها وزيرًا للدفاع في حكومة الأزهري الثانية “القومية”.

شكل عبد الله خليل وزارة ائتلافية من حزبه وحزب الشعب الديمقراطي، وحزب الاحرار الجنوبي، وهي الحكومة التي سلمت السلطة للفريق أبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958، في أول انقلاب عسكري تشهده البلاد.

في 2 أغسطس، أصدر وزير المالية أبراهيم أحمد بيانًا كشف من خلاله أن العملة المستلمة عبارة 22 مليون جنيه سوداني، في خمس فئات هي 10 جنيهات، 5 جنيهات، جنيه واحد، 50 قرشًا، و25 قرشًا، وكلفت طباعتها في إنجلترا 14 مليون جنيه إسترليني.

وفي 6 أغسطس، عقد مجلس الوزراء اجتماعًا طارئًا، برئاسة عبد الله خليل، استمع فيه لإحاطة من وزير المالية، أبراهيم أحمد، حول الظروف التي أدت إلى توقيع الأزهري على العملة. كاشفًا أن موظفي الوزارة هم من اقترح أن يوقع رئيس الوزراء على العملة بعد أن وجدوا للأمر سابقةً في بعض الدول الأخرى. وأن التوصية رُفعت لمجلس الوزراء الذي قرر ألا يعتمدها إلا بعد استشارة المعارضة، وتم ذلك عبر اتصال أجراه مبارك زروق مع محمد أحمد المحجوب الذي أعطى الموافقة. وتحدث عن التكلفة العالية التي تكبدتها الدولة (79.971.000 جنيهًا مصريًا). وحذر من النتائج المترتبة على تأخير اصدارها، تحت ضغط الرأي العام.

ومر سبتمبر 1956، ولم تصدر العملة في موعدها المحدد.

وفي 21 نوفمبر، وبعد جلسة طارئة لمجلس الوزراء، أصدر وزير المالية بيانًا أعلن فيه أن المجلس وبإجماعه قرر حرق العملة لأنها حملت توقيع رئيس الوزراء، واستحالة تغيير التوقيع بعد الطباعة. وقرر المجلس إعادة طباعة العملة بتوقيع رئيس لجنة العملة.

نفذ الجيش، في ذات اليوم، المهمة بحـرق الصناديق الخشبية التي احتوت على 11 طنًا من الأوراق النقدية، ولم يعلم الجمهور بذلك إلا في اليوم التالي عبر خبر بثته إذاعة أمدرمان.

وما أن سـمع مؤيدو الحزب الوطني، وعامة السودانيين، بالخبر، حتى خرجوا في مظاهرات حاشدة بأم درمان وبحري والخرطوم وبعض المدن الأخرى، مرددين “حرق العملة حريق الشعب”، “اعدام العملة إعدام الشعب” “لا استقلال بلا عملة” ووصفت الصحف التظاهرات بأنها غفيرة” (الأيام: 15 أغسطس 1956).

بعد حرق العملة اتخذت الحكومة الاجراءات لإعادة طباعة العملة مع إضافة تعديلين هامين أولهما تغير اسم الجهة المُصدرة من (حكومة السودان) إلى (الجمهورية السودانية – لجنة العملة السودانية)، وثانيهما استبدال توقيع الأزهري بتوقيع كل من رئيس لجنة العملة بوزارة المالية السيد مأمون بحيري، وإبراهيم عثمان اسحق عضو اللجنة، مدير إدارة التجارة والصناعة والتموين، ولم يجر أي تعديل في شكل العملة أو فئاتها.

الدفعات الأولى من العملة الورقية الجديدة تمت طباعتها في الولايات المتحدة الأمريكية. وصلت الدفعة الأولى منها إلى الخرطوم (مليونا جنيه من فئتي 50 و25 قرشًا)، في 21 فبراير 1957، على متن طائرة عسكرية أمريكية، ، فيما تمت طباعة بقية الفئات في بريطانيا، وتنازلت الحكومة الأمريكية عن تكاليف النقل التي زادت عن 4 آلاف جنيه.

 

في 18 أبريل 1957، طرحت العملة الورقية، حملة ذات التاريخ الأول الذي حملته العملة المحروقة؛ 15 سبتمبر 1956، واضيف توقيع مأمون بحيري رئيس لجنة العملة السودانية وإبراهيم اسحق عضو اللجنة.

وجاءت العملة الورقية الأولى في الفئات التالية:

10 جنيهات،

و5 جنيهات،

وواحد جنيه،

و50 قرشًا،

و25 قرشًا،

لتحل محل أوراق النقد المصرية السائدة.

استمرت عملية استبدال العملة حتى 8 أكتوبر 1957، تم في نهايتها النجاح في استبدال كل العملة الورقية المصرية والبالغ قيمتها (23,757,454) جنيهًا سودانيًا، سُلمت بالكامل للحكومة المصرية.

والمعروف أن عرض النقود المعدنية السودانية الأولى، سبق عرض الأوراق النقدية. ففي 19 يناير 1957، بدأت الحكومة في طرح العملات المعدنية السودانية للتداول في سبع فئات هي:

10 قروش،

5 قروش،

قرشان،

قرش،

5 مليم،

مليمان،

ومليم واحد.

وكانت الحكومة قد عهدت لباكستان مهمة ضرب سك العملة المعدنية، ليبدأ سك العملة المعدنية في داخل البلاد بإفتتاح دار سك النقود السوداني في نوفمبر 1960.

وبسبب الانتشار الواسع للنقود المعدنية المصرية والإنجليزية في كل أرجاء السودان وبخاصة في المناطق البعيدة النائية، استغرقت عملية استبدالها وقتًا طويلًا، فقد استمرت حتى 31 مايو. وبلغت القيمة الكلية للنقود المعدنية المصرية والانجليزية المُستبدلة ما قيمته 2,198,170 جنيه سوداني، وبإضافة قيمة العملة المصرية الورقية المستبدلة والبالغة (23757454) من الجنيهات السودانية، والعملة المعدنية المستبدلة في يناير 1961، وقدرها (821530) جنيهًا سودانيًا، يصبح مجموع قيمة العملة الأجنبية الورقية والمعدنية التي سحبت من التداول (26,777,154) جنيهًا سودانياً.

وابتداء من في 7 يوليو 1957، أصبح تداول العملات المصرية والإنجليزية داخل السودان غير مشروع وغير مبرئي للذمة. وكان ذلك أول استبدال للعملة، وتم قبل أن تطرح للتداول وتصل إلى أيدي الجمهور.

وفي عام 1959، صدر عن البرلمان قانون بنك السودان ليحل محل “لجنة العملة السودانية” في إصدار العملة والإشراف على النقد والإئتمان والوظائف الأخرى للبنوك المركزية.

باشر البنك أعماله في عام 1960 وعين مأمون بحيري كأول محافظ له، وظهر توقيعه على كل العملات الورقية التي طبعت لاحقًا، واستبدلت فيها جملة (لجنة العملة السودانية)، بعبارة (بنك السودان)، ولم يجر أي تعديل في شكل العملة أو فئاتها.

العملة فئة الخمسة وعشرين قرشًا حمراء اللون المرفقة تحمل توقيع الأزهري وهي واحد من أطنان الأوراق النقدية التي جرى حرقها.

Exit mobile version