صراع البحر الأحمر.. مرحلة كسر العظم

د. ياسر محجوب الحسين

كثير من المؤشرات تؤكد أن أفريقيا هي الميدان الأكثر سخونة للصراع الدولي على الموارد، والممرات البحرية الدولية. والمتصارعون الأساسيون الولايات المتحدة الأمريكية، وحاشيتها من حلفاء بعضهم تعلو قامته، وآخر تتقاصر لحد التقزم فضلاً عن أدوات محلية، ودول وظيفية، وفي الجانب الآخر تبدو روسيا، وهي تعمل على استراتيجيتها القديمة للوصول، والتمركز في المياه الدافئة، وفي ذلك لا تحدها سوريا التي أوجدت لها فيها موطئ قدم. وهناك طرف آخر يصارع، ولكن بأدوات ناعمة لاسيما عبر الاقتصاد، وهو الصين بكل جبروتها الاقتصادي بينما تبقي سلاحها الذي لا يستهان به ليوم كريهة، وسِدادِ ثَغْر. ولقد كشفت بيانات خدمة أبحاث الكونغرس عن حجم الهوة بين جدية استثمارات البلدين في القارة السمراء؛ إذ أبرمت الصين في 2020 وحده اتفاقيات بقيمة 735 مليار دولار مع 623 شركة، فيما بلغت قيمة 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 45 دولة أفريقية أكثر من 50 مليار دولار العام الماضي. في المقابل أفادت البيانات بأن الولايات المتحدة استثمرت فقط 22 مليار دولار في 80 شركة في أفريقيا خلال نفس الفترة.
وفي خضم الصراع حول أفريقيا لاسيما في الساحل الغربي للبحر الأحمر أبرز الممرات الدولية الإستراتيجية التي يدور فيها مارثون التمركز، والاستحواذ؛ فقد أرسلت إثيوبيا، يوم الجمعة الماضي، مندوباً جديداً بدرجة سفير إلى الكيان الذي أطلق على نفسه (جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها)، وذلك لأول مرة منذ بدء العلاقات بين أديس أبابا، والإقليم المتمرد على الدولة الصومالية المعترف بها دولياً. حيث وقعت أثيوبيا اتفاقاً مع (أرض الصومال) يناير الماضي يمنحها الوصول إلى ميناء على البحر الأحمر من خلال استئجار شريط ساحلي بطول 20 كيلومترا مقابل اعترافها بالإقليم (دولة مستقلة) رغم أنف القانون الدولي. وكانت (أرض الصومال) قد أعلنت في مايو 1991 من جانب واحد استقلالها، بيد أنها لم تحظَ حتى اليوم بأي اعتراف دولي أو إقليمي. وتقع (أرض الصومال) في القرن الأفريقي في البر الرئيسي لقارة أفريقيا على شاطئ خليج عدن.

وأثيوبيا دولة حبيسة ليس لها أي منفذ بحري مثلها مثل 17 دولة أخرى، وأصبحت حبيسة هضابها بعد انفصال إريتريا المطلة على البحر الأحمر عنها عام 1993. ويكفل القانون الدولي لها في الفقرة 125 حق توقيع اتفاقيات ثنائية تمكنها من استغلال موانئ دول الجوار. وهناك دول مجاورة لأثيوبيا ولها منافذ بحرية كان يمكن لها أن تعقد معها اتفاقات دون انتهاك لسيادتها مثل جيبوتي، وأريتريا، والسودان. لكن الخطوة الأثيوبية الأخيرة بدت متحدية للقانون الدولي إذ إن الدولة صاحبة الحق في عقد اتفاق ثنائي هي جمهورية الصومال الفيدرالية، وعاصمتها مقديشو، وليست (أرض الصومال). ولذا لم تحترم أديس أبابا وفقاً للقانون الدولي سيادة جمهورية الصومال على أراضيها ومياهها الإقليمية. وربما كانت تصريحات رئيس الوزراء الأثيوبي في ذات السياق قد أثارت القلق تجاه تلكم الخطوة بل اعتبرتها كثير من الدول المعنية خطوة عدائية؛ إذ ذكر مخاطباً برلمان بلاده ما أسماه بـ“الضرورة الوجودية لإثيوبيا في الوصول إلى منفذ في البحر الأحمر” حيث يرى أنه لابد من مناقشة فكرة وجود منفذ دائم، و»مستقل» على البحر الأحمر، فكيف يكون منفذا مستقلاً وهو ضمن أراضي دولة أخرى ذات سيادة؟!. وقد وصف وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماع طارئ، عُقد لدعم الصومال الفيدرالية، اتفاق أثيوبيا و(أرض الصومال) بأنه: «انقلاب صارخ على الثوابت العربية، والأفريقية، والدولية المستقرة، ومخالفة واضحة للقانون الدولي، والاتفاقيات الدولية النافذة».
مع العلم أن لأثيوبيا اتفاقية مع جيبوتي حيث يمر أكثر من 95% من وارداتها، وصادراتها مقابل 1.5 مليار دولار سنويا. غير أن الأمر الخطير أن الخطوة الأثيوبية تتخطى الأهداف الاقتصادية، والتجارية إلى محاولة التموضع عسكرياً؛ فالاتفاق الأثيوبي مع (أرض الصومال) ليس اتفاقاً تجارياً تنافسياً، أو أنه يمكن التراجع عنه بسهولة كبقية الاتفاقات. بل ربما يأتي في إطار اتفاقيات غير معلنة مع دول محورية في الصراع المحتدم على البحر الأحمر، و(إسرائيل) ليست بعيدة عن المشهد. إذن فإن ذلك الاتفاق يمنح أثيوبيا قاعدة عسكرية مع قدرتها على التحكم، والتمركز في ساحل بطول 20 كيلومترا لمدة 50 عاما، ويضم ميناء بربرة، ويشكل ذلك نحو 90%؜ من طول ساحل جيبوتي الذي يبلغ نحو 31 كيلومترا، ولعل أثيوبيا اختارت (أرض الصومال) لأنها تعتبر كيانا رخوا، وهذا ما يكرس الانفصال في دولة عربية، ويمهد لأن تبتلع أثيوبيا كلتيهما واحدة تلو الأخرى وربما هو مخطط استراتيجي بشراكة دولية على المدى البعيد. وأثيوبيا في أحسن الأحوال تسعى لامتلاك نفوذ عسكري واستراتيجي وتقديم نفسها طرفًا في المعادلة الإقليمية الخاصة بالأمن البحري في القرن الإفريقي.

Exit mobile version