عبدالعزيز يعقوب
في صباحٍ بدت فيه الشمس وكأنها غاضبة من الخرطوم، انطلق الشرطي الجديد “مازن” إلى نقطة خدمته وهو يُصلح هندامه الأبيض الأنيق بعناية، كمن يدخل حفل تنصيب أكثر منه نقطة مرور.
وقفت أمّه عند عتبة الباب، تودّعه بعينين فيهما بعض فخرٍ وكثير من القلق، وقالت له بصوتٍ يشبه الدعاء:
“اثبت يا ولدي… وخاف الله فوق عباده.”
ثم رفعت يدها نحو السماء، كأنها تُودعه إلى الله وحده، وقد أدركت بقلبها أن من يخرج إلى الشارع لا يحرسه الزيّ العسكري الأنيق، بل نظافة اليد والضمير. وكانت ثقتها في مازن كبيرة، وفي الله أكبر.
مازن، خريجٌ حديث مفعم بالحماسة، مليء بالأمل، كان يظن أن شرطة المرور هي خط الدفاع الأول عن البلاد والعباد، وأنه سيكون هاديًا للتائهين وسط الزحام. وعاهد نفسه وأمّه وربه ألا يستخدم سلطته إلا لحماية الناس، وألا تكون أداة للهمس في جيوبهم أو استخدامها لقهرهم وإذلالهم.
قضى أسابيعه الأولى في الدورات من استخراج الرخص، إلى قراءة اللوائح، إلى فرز الملفات، إلى تعلُّم كيفية التفريق بين مخالفة حقيقية ومخالفة “تسوية”.
ثم جاء اليوم الموعود، ووضِع في قلب الخرطوم وضجيجها وسخونتها، حيث الزحام يُعزف كسمفونية فوضى، والغبار يرقص كشيطانٍ أعمى.
وذات ظهيرة، بعد أن هدأت حركة السير والمرور قليلاً، استدعاه الرقيب وقال له بنبرة فيها من الحزم والوقار ما يكفي لاقتحام قصر جمهوري
“بعد ساعة ونص… تمشي تجيب الفطور. ستة أشخاص. علبة برنجي و ما تنسى الزبادي!”
أومأ مازن بأدب، أدّى التحية وقال:
“تمام يا حضرة الرقيب.”
ثم همس في نفسه “لكنه… لم يُعطني ثمن الإفطار!”
التقى بزميله في النقطة، فحكى له ما جرى، فضحك الزميل وربّت على كتفه قائلاً:
“استعمل الصفارة… واطلع بالساهلة!”
ثم شرح كمن يُلقي درسًا في الاقتصاد الميداني “يعني توقف ليك كم عربية… ولو عندهم مخالفة، خُد الفيها النصيب. ما سرقة… بس مساهمة وطنية للإفطار.”
تجمّدت ملامح مازن.
لا لأن العبارة جديدة، بل لأنهم يقولونها بلا حياء أو خجل، كأن الرشوة صارت فُكاهة يتداولونها بابتسامة، دون وجعٍ أو ألمٍ في الضمير.
الصفارة، التي وُضعت لتنظيم المرور، تحوّلت في لحظة إلى أداة لخيانة الشعب والوطن.
والزي الأبيض، الذي يُفترض أن يكون عنوانًا للنقاء، بات يُستخدم غطاءً للابتزاز.
لكن الأخطر من الإفطار على حساب المواطن، هو ما يتخفّى وراءه من انهيارٍ بنيوي في العدالة.
فمازن ـ دون أن يشعر ـ صار في موقع من يجمع بين أربع سلطات مستقلة
1. هو رجل إنفاذ القانون من يشهد ويسجل المخالفة.
2. وهو من يتقمص دور النيابة ويتقدّم بالاتهام.
3. وهو من يُصدر الحكم قاضيًا فورًا إدانة أو تجاوز، أو تسوية.
4. وهو من يُحصّل الغرامة مباشرة، بغير إيصال أو سجل.
وفي بنية النظام العدلي السليم، هذه الوظائف لا تلتقي في شخصٍ واحد.
فالشاهد يُدلي بما رأى،
والنيابة تُحرّك الدعوى،
والقاضي يُحقق ويُوازن، وقد يُصدر حكمًا أو يُبرّئ،
ثم تُسلَّم الغرامة ـ إن وُجدت ـ إلى جهةٍ مالية منفصلة.
أما حين يتحوّل الشرطي إلى شاهد، ومدّعٍ، وقاضٍ، ومتحصل أموال…
فقد خرجنا من ظلّ العدالة إلى عراء السلطة الفردية، ومن روح القانون إلى مزاج الرصيف.
القصة لا تُدين مازن، بل تُدين البنية التي وضعته أمام مفترق صعب…..
إما أن يثبت كما أوصته أمه،
أو يذوب في “الساهلة”، تلك التي جعلت من الرشوة طقسًا يوميًا مبرّرًا بالجوع.
وما بين السيجارة والزبادي، ضاعت هيبة الدولة،وتحوّلت الصفارة من رمزٍ للنظام… إلى صافرة انطلاق نحو الفساد.
الصفارة ليست وسيلة للارتزاق، بل عهدٌ أُعطي باسم الوطن.
ومن يحملها، عليه أن يختار:
إما أن يكون صوت الضمير النزيه،
أو صدى الفوضى المُمَنهجة.
لكنّ الإنصاف لا يكتمل ما لم نقل كلمةً في حقّ (مازن) وأمثاله من الشرفاء المقهورين، أولئك الذين تُلقى على كواهلهم أعباء الدولة، ثم يُتركون في العراء بلا غطاء، تطاردهم ضغوط الجيب، وتعنت الرؤساء، وسهام الرأي العام. بينما تغيب عنهم النقابات القانونية، التي يُفترض بها أن تكون حصنهم وملاذهم، لكنها انشغلت بصراعات السياسة في منابرها، وانصرفت عن دورها الجوهري في ترسيخ قواعد العدالة، والدفاع عن الحقوق، وتطوير المهنة، وصون كرامة من نُكّلت بهم اختلالات المنظومة.
لذلك، إن أردنا فعلاً معالجة هذا الخلل البنيوي في مؤسساتنا، فإن طريق الإصلاح يبدأ من هنا..
1. رفع مرتبات الشرطة والخدمة المدنية عموماً إلى مستوى يصون الكرامة ويكفي الحاجة، فالجائع لا يحرس، والمحتاج لا يُحاسب بنزاهة.
2. فصل السلطات داخل أي منظومة عدلية ضبط وتحرٍ وادعاء وقضاء عادل، بحيث لا يكون من بيده القيد هو من يملك الحكم والتحصيل.
3. المتهم لا يجب أن يُدان في الشارع، والغرامة لا تُدفع تحت هجير الشمس، بل عبر نظام عدلي مكتمل.
4. إلغاء التحصيل الميداني نهائيًا، أو حصره في حالات موثقة تحت إشراف رقابة إلكترونية.
5. تفعيل التكنولوجيا في نقاط المرور والخدمة العامة، بحيث تُسجَّل جميع عمليات التوقيف والاشتباك المدني بالصوت والصورة، لا لحماية الشرطي فقط، بل لحماية المواطن أيضًا.
6. إقرار حق المواطن في تسجيل أي حوار مع موظف أو شرطي، ما دام الأمر في فضاء الخدمة العامة، على أن يُخطر الطرف الآخر بأنه موضع تسجيل، حفاظًا على القانون والاحترام المتبادل.
أخيراً…
فلا الدولة تنهض بالنداء وحده،
ولا الفساد يُقتلع بالدعاء فقط،
بل بإرادة تُشرّع، وعدالة تُقسّط، وضمير لا يصدأ مهما طال الزيّ أو تغيّر لون الصفارة.
