خالد محمد أحمد
لا يملك السياسي أعزَّ من رأس ماله الحقيقي؛ وهو صدقه.
هو البوصلة التي ترسم مساره، والجسر الذي يربطه بجمهوره، والدرع التي تقيه سهام خصومه؛ فإذا ضاع هذا الرصيد، سقط في أعين أنصاره قبل أن ينال منه أعداؤه، وصار حضوره عبئًا على نفسه وعلى قضيَّته.
هذا عينُ ما حدث في مناظرةٍ جمعت الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني، شريف محمد عثمان، والمحللِّ السياسي، هشام شمس الدين، على قناة (الجزيرة مباشر).
لم يكن لافتًا اختلاف الآراء، فذلك مألوفٌ في السياسة وحواراتها، بل المثير ولوغ شريف في سلسلة من المغالطات التي أصابت مصداقيَّته في مقتل.
دخل شريف الاستديو مُثقلاً بهاجس الانتصار في اليوم التالي على منصَّات التواصل الاجتماعي، ومفتونًا بلقب (جلاَّد الكيزان). جاء لاهثًا لترديد قوالب محفوظة ومتكلِّسة. كذبةٌ جرَّت أختها، حتى وجد نفسه غارقًا في متاهةٍ من الادعاءات التي لا تصمد أمام أبسط تمحيصٍ.
على الضفَّة الأخرى، لم يحتج هشام إلى الكذب، إذْ دخل مُسلَّحًا بتحضيرٍ جيِّدٍ وحججٍ صلبة حتى أن أنصار محاوره غضَّوا الطرف عنها، لأنها ألقمتهم حجرًا، ولم يجرؤوا على نشر مقطعٍ واحد يعضِّد طرح ممثِّلهم، بل اكتفوا بالانصراف إلى الهجوم الشخصي على هشام. وهذه وحدها شهادةٌ على خواء ما قدَّمه شريف.
كان يمكن لتلك المناظرة أن تمرَّ كسابقاتها؛ فالسياسي قد يخطئ في تقديراته، وقد يختلف مع خصومه، لكن ما لا يُغتَفر هو أن يبيع الوهم على الهواء مباشرةً، وأن يكذِّب حقائق ليست من التاريخ ولا تحتاج حتى إلى التحقُّق. والأخطر أن يكون ذلك أمام جمهورٍ واسع لا يقتصر على بسطاء قد تنطلي عليهم الحيل، بل يشمل مُستنيرين يرصدون ما يجري من أحداثٍ، ولا يقبلون كلامًا على عواهنه.
إن أسوأ ما يمكن أن ينحدر إليه السياسي ليس الهزيمة في مناظرةٍ، بل أن يفقد احترام الجمهور وثقتهم، وتُستَتفه آراؤه، ويصبح كلامه مادةً للتندُّر والاستخفاف. وحين يلتصق به الكذب الصراح، فلا يحتاج خصومه إلى كبير عناءٍ لإسقاطه؛ يكفي أن يتركوه يتحدَّث، ليتولَّى عامَّة الناس في الوسائط الإجهاز عليه.
الدرس المستخلَص من المناظرة المعنيَّة هو أن المنصَّات الإعلامية محكٌّ يُخْتَبر فيه الصدقُ قبل رجاحة الفكر وصلابة المنطق. ومن يظنُّ أن زخرفة الباطل تمنحه نصرًا عابرًا، سيكتشف بعد فوات الأوان أنه خسر صورته، وأحرق رصيده السياسي.
وليعلم الساسة أن الأعذار متاحةٌ لهم على ضعف حججهم وتغيير مواقفهم؛ غير أن الكذب عارٌ لازمٌ وذلٌّ دائمٌ. وكما قيل قديمًا: لا رأي لمكذوبٍ.
