رأي

شروط النهضة وقشورها!

الدكتور الخضر هارون
ليس الحنين وحده أيها السادة والسيدات ،هو الذي يحرك دواخلنا ولا الرغبة في القعود حيث نحن إلتماسا للدعة والاسترخاء واللا-فعل . ولا يجب أن يقرأ الحديث المكرور عن ( الزمن الجميل) كدالّة علي ذلك فمبعث ذلك أننا نعيش أياما بالغة السؤ مقارنة بأمسنا القريب وتلك أحاديث الحسرات لأن من طبائع الأشياء أن الحياة تتقدم بالجهد المتصل ومغالبة الصعاب ولا تقهقر لذلك فحديثنا عن الزمن الذي كان جميلا يستبطن التحسر لا الرغبة في التقهقر .بل نحن كسائر الأسوياء من الناس في كل زمان ومكان نتوق إلي اليسر ونتحاشى التعسير والتضييق وتحميل أنفسنا والناس ما لا نطيق ولا يطيقون بالدعوة الغبية إلي ترك السيارة والقطار والطيارة إلي الدواب من البغال والحمير والخيول فحكمتنا البالغة والبليغة هي إذا (خُير المرء بين أمرين اختار أيسرهما) يتبع ذلك الحمد والامتنان للخالق الديان المنان بالعيش في أكناف العصر دون اجتراح غربة ليست لازمة ولا ضرورية لتحقيق النهضة وأن نكون يدا عليا تعطي ولا تنتظر الفتات والاعطيات كالتي فعلها كمال مصطفي الذي جعلوه أبا لتركيا ( أتاتورك)! وهو الذي انتزعها قبل مائة عام عن آبائها الذين جعلوها امبراطورية مترامية الأطراف ينظر( بابها العالي)إلي السحابة الماطرة مبتسماً مغتبطا متأسيا بقول هارون الرشيد الذي سبقه في سوح الأمجاد بقرون قائلا :”أمطري حيث شئت فسيأتينا خراجك! “وأوغل الرجل في التغريب يروم العلالي دون حاجة لذلك الإيغال ،فغيّر حروف التركية من العربية إلي اللاتينية لتكتمل غربة الأجيال اللاحقة ويتعاظم جهلها بتراثها التليد الذي عرفت به في الملاحم والانتصارات فلا تكاد تعلم اليوم من ذلك ما يبعث فيها النخوة والصبر علي الصمود والتحدي . وللأسف ومع جليل تلك التضحيات سبقتها بلدان التمست الرفعة استنادا علي ثقافاتها فبلغت الغايات القصوي كاليابان والصين والهند .
ولعل تركيا تحاول اليوم تصحيح المسار بتكلفة عالية بفقدان قرن كامل من الزمان .
نحن مثل أولئك ، اليابان والصين والهند نريد أن ننطلق كالصواريخ العابرة للقارات مستندين علي تراث تليد من القيم والأخلاق والدين لنحقق المزيد من تيسير الحياة وتحقيق الكرامة الإنسانية بالاستغناء عن العطايا والهبات والصدقات لإطعام ومداواة الجوعي والحزاني.
ذكرت كل ذلك وأنا أبحث لشاب مستنير يجيد التماس الثمر من أعالي الشجر ،عن هذه القطعة الأدبية الرائعة المحفزة علي البذل والعطاء للأستاذ الأديب الرائع أيضاً أحمد حسن الزيات التي زيّن بها صفحات ( الرسالة) عام ١٩٣٥ ، كان قد قرأ علينا مقدمتها أستاذنا الجليل المرحوم صديق محمد أحمد في ثانوية مدينة مدني، حيا مروجها البهية الحيا يبتدر بها حصة في تاريخ أوروبا كنت قد أشرت إليها في مذكرات لي بعنوان ( رسائل في الذكري والحنين) شاكرا فضل أستاذنا عليه من الله الرحمات تتنزل كالمطر. وقد قرأ مقدمة المقالة بصوت اذاعي أخاذ ( من السائرون في شحوب الأصيل…) وقد سره ذكري لذلك فكتب إليّ شاكرا رسالة رقيقة رحمه الله. قلت قد فعلت بنا المقالة الأفاعيل فركضنا في أنحاء المدينة الحنينة التي كانت تضطرم دواخلها بالرغبة الملحة في الانطلاق ،نبحث عن مجلة الرسالة التي كانت قد توقفت عن الصدور منذ عقود حتي وجدناها في مكتبة رئيس الجالية اليمنية يومئذ الشيخ الوقور المحب للأدب، يحي حسين الشرفي عبر نجله الدكتور محمد الذي زاملنا في أميرية مدني وفي ثانويتها رحمهما الله رحمة واسعة.
أعيدها للنشر هاهنا للعظة والاعتبار لكي نفرق ونحن نخوض غمار الصعاب ،بين شروط النهضة وقشورها:

مجلة الرسالة/العدد 88/إلى أين يُساق الأتراك؟1935
مَنِ السائرون في شحوب الأصيل على حدود المغرب، يسرعون الخطى كأنهم هاربون من النهار، ولا يلتفتون إلى الخلف كأنهم ناجون من سَدُوم؟! مَنِ السائرون بين النور والظلام على الدرب الخادع المبهم، يخفقون كأطياف المساء على حواشي الطفل، ويمسون الطريق من الوراء حتى لا يرجعوا إلى الأهل؟! إنها أمة من صميم الشرق نشأت في نوره، وطبعت على شهوره، وتنفست في عطوره، ألقت زمامها الأقدار الغالبة في يد عصبة من أبنائها، رُبُّوا في غير أحضانها، فنشأوا على غير منشئها، وجروا على خلاف مبدئها، فقطعوها بالكره عن مشرق الشمس ومبعث الروح ومنبت العاطفة ومنشأ الدين، وخرجوا بها متعسفين إلى طريق مشتبهة، وغاية مريبة، ودنيا مجهولة؛ ثم قالوا لأنفسها انسلخي عن شرقيتك بأمر القانون، ولقلوبها اعتقدي غير عقيدتك بحكم القوة، ولألسنتها أنطقي غير لهجتك بإرادة الحاكم، ولحاضرها انقطع عن الماضي بسطوة الجمهورية، ولأرضها وبيئتها وطبيعتها انفصلن عن آسيا بإذن الحكومة! كأنما الأمم تصاغ بالقوانين، والطبائع تغير بـ (الأوامر!!)
مهلاً ساقةَ الظعن وهُداة القافلة!! سترحلون عن وطن إلى غربة، وعن ولاء إلى عداوة، وعن إخوة إلى سادة. ماذا نقمتم من الشرق مهد الإنسان ومهبط الأديان ومنبع الإلهام ومسرح الأحلام ومبدأ النشأة؟ ألم يخلق اليابان اليوم كما خلق الصين والهند وبابل والفرس والعبران والعرب بالأمس؟
إن شمس المدينة أرسلت علينا أول أشعتها في صبح الوجود، ثم متَعَ ضحاها فغمرتنا بالنور والشعور والقوة، ثم انحدر إلى المغيب في بلاد المغرب حتى بلغت خيوطها أطراف الشفق! إنها ستغرب لا محالة، وإنها ستشرق لا محالة، وإن غروبها لا يكون إلا هناك، وإن شروقها لا يكون إلا هنا. فلم لا تنتظرون معنا يا بني العم طلوعها الجيد القريب على موطنها الأول؟
لقد ذر منها كما ترون على اليابان أشعة، وبص منها الساعة على مهاد العروبة وبلاد الإسلام شعاع! وعما قليل يسطع في أقصى الشرق وفي أدناه وهجُها وسناها، فتهتز الأرض من جديد وتربو، ثم تتشقق عن العبقريات التي ارتجلت الحكمة، وإكتشفت المعرفة، وسنت الأخلاق، ودفعت مدينة الإنسان إلى مداها البعيد قالوا لتركي الأناضول: مالك وللشرق، ومالك وللعرب، ومالك وللإسلام؟ تعال نبحث عن أجدادك في الأولمب، وعن قومك في الفورم، وعن مدنيتك في اللوفر؛ ثم ألزموه أن يلبس القبعة، وأرغموه أن يكتب من الشمال، وفصلوا الدين عن الحكومة، وانتزعوا العربية من التركية، وحرموا الشعب المتدين تقاليد الإسلام، وحرموا عليه أخلاق الشرق، ثم ألغوا العيدين، واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد، ثم نقلوا الأمة المروعة المشدوهة على المدرعات إلى الشاطئ الأوربي، ثم أحرقوا من ورائها سفائن طارق!
على أن التركي الأصيل الذي استضاء بهدى الإسلام، وتثقف بعلم العرب، وساهم في مجد الفتوح، لم يَصْغَ قلبه لهذا التغير المفروض، فظل فؤاده حيث طبعه محمد الرسول، وجسمه حيث وضعه محمد الفاتح!
أما موضع الخطر فأولئك النشء الذين قست عليهم الحرب، وبغت عليهم السلم، فحصروا علل أخطائهم وأسباب أرزائهم في معنى الخلافة فنفوها من الأرض، ثم أفرط عليهم العداء فتحيفوا ما يلابسها من شرقية وعروبة ودين؛ أولئك سيزهقون في حاضرهم روح الماضي، ويقطعون عن ضمائرهم صوت التاريخ، ويبنون قوميتهم على أسس مستعارة، ويجددون شخصيتهم على تقليد طائش، ويخضعون عقليتهم لعبودية قاتلة، ثم يتنفخون بالصوت الرفيع المدل: أن تركية للترك! فيقول لهم الدهر الساخر: نعم، وإن الترك لأوربا!
فخامة الغازي العظيم أتاتُورك! لقد جبرت الجناح المهيض، وأحييت (الرجل المريض)، وأنقذت من براثن العوادي السود تركية الفتاة، ما في ذلك شك، فاسمك العزيز عنوان تاريخها الحديث، وعزمك الجبار قوام دستورها القائم، وروحك الوثاب سناد مستقبلها الطارف، ولكنك ظلمت تاريخك الخاص بمخالفة الطبيعة في التجديد، ومجانبة المنطق في الاصلاح. أخشى أن يسجل الرقيب الذي لا يغفل أنك أحييت دولة وأمت أمة، وبنيت دستوراُ وهدمت عقيدة، وبعثت لغة ودفنت ثقافة!
ما جريرة العرب على الترك وقد استخلفوهم على الدين واستأمنوهم على الرسالة؟ وما جريمة الإسلام على الترك وقد نعشهم من الخمول وأخرجهم من الجهالة؟ وماذا يبقى من الترك ولغة الترك وثقافة الترك إذا محوت أثر العروبة ودينها من كل ذلك؟
إن العرب ليسوا أقل شأناً من الطليان والجرمان، والإسلام ليس بأضعف في رفع الشعوب من وثنية اليابان، ولكنها موجة من المادية الطاغية غشت على الأبصار وطغت على البصائر، ستنحسر غمرتها عن مجالي الفضيلة والحق ولو بعد حين!
أحمد حسن الزيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى