علي البدري
كان إدوارد سعيد في تِرحاله الدائم، منذُ الثانوية وحتى مماته في مثل هذا الشهر، في رحلاته القصيرة داخل المُدن التي سَكنها، ورحلاته الطويلة حول العالم، كان يأخذُ جميع حقائبه ومتعلقاته معه، يقول ادوارد أنّ هذه العادة العُصابية ربما كان سببها خوفه الدائم من اللا عودة؛ حين غادر من مصر همست والدته في أذُن والده: لنْ يعود إدوارد.
أيضاً، ولأسباب عُصابية كذلك، مَنَع محمد حمدان وجنوده الجميع من حمل حقائبهم ومتعلقاتهم قبل تهجيرهم، غنيمةً حية لروّاد الفزع، الفزع الذي يحتاجه الرجُل لخوفه من اللا عودة إلى السلطة؛ قديماً قالها، إذا استمرت أيامُ فض الاعتصام شهراً، هذه العمارات أمُ كاميرتاً برة، لنْ يبقى بها أحد، بل ستسكُنها الكدايس، وقدْ أنجز الرجُل وعده.
يختزن محمد حمدان استبطاناً صراع الزرقة والعرب في أراضى دارفور التي يظن حميدتي أن “الفتي العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان”، لذلك أخَذَ بخطام القيادة متمثلاً قول ماركس أنهم “لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، إذن فلا بد أن يمثلهم أحد” وبالطبع هُوَ هذا “الاحد”، ثم بعد التطورات الكبيرة في الطموح و التناقضات التي تمنع تحقيقه صوَّر لزمرته أنه أشد غربة في خرطوم النيل ودليلهُ على ذلك أن “المقعد نمرة اتنين دا ممنوع”، هو ذاتهُ محمد حمدان الذي أُتِىَ به قديماً لا ليُضحك ربات الحداد البواكيا في دارفور بل ليعظم حَزَنَهُنَّ و نَشيجهن؛ يضع محمد حمدان شرطاً بأن “ما بكاتل ما عندو راي”، حذو القُذة بالقذة مع الأستاذ حين قال “المجدُ للسيفِ ليسَ المجدُ للقلمِ”، وهذا ليس تأسياً بالطبع بقول الإمام على عليه السلام لأهل العراق حين استطردوا في مقاومتهم لرأيه “… ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع”، لأنّ تلك قضية خاسرة وقضية الإمام هى الحقُ المطلق.
يضع والتر بنيامين تمييزاً، بحسب وجهة نظر محمود ممداني وتعليقات جاك دريدا، بين نوعين من العنف وهما “عنف صناعة القانون” و “عنف حماية القانون”؛ ما يمكن فهمه من خطاب حروبات أسلاف الدعم السريع الإنقاذية القديمة في دارفور أنها كانت تدور حول”عنف حماية القانون”، أو ما كانوا يسلّمون بأنه قانون يحظر وجود مليشيات تُقاتل الدولة، أي مهمة دحر التمرد -كما ظلوا يرددون- لفرض النظام؛ تغيّرت غايةُ هذا العنف حديثاً نحو الإستيلاء على الدولة وهو عنف مختلف نحو “صناعة القانون”، اي قيام مراكز قوى جديدة بشاغلين جُدُد، لذلك فهو عنف سياسي في أساسه لتغيير المعادلة الكلية الناظمة للحكم؛ حدث هذا التوجه في التكتيك تدريجياً بعد مأسسة الدعم السريع وتحوله لمنظومة قانونية في ظل نظام البشير، و هو ما يمكن فهمه من التحليل الدقيق والمنوِّر للبروفيسور عبد الله على إبراهيم عن التغيُّر النوعي في استثمار الميليشيا، أي ان فعلة نظام البشير الفارقة، إذا فهمنا تشريح البروفيسور، هي تحويل الميليشيا من أمر طارئ ومؤقت إلى منظومة ثابتة ذات مهمة دائمة مثلها وبقية نُظم الدولة ومؤسساتها، ولكن هذه المؤسسة متفوقة بالطموح والإستقلالية والموارد بالإضافة للتحالفات العَبْر وطنية .
يُريد محمد حمدان، و في معيته بعض دراويش السياسة الداعمين له، أن يُقنع الخارج ( وجزء من الداخل احياناً) أن حربه الحالية هذه ليست حرباً على الدولة ومن اجل السيطرة على الدولة، بل هي صراع مجتمعي متقدم، اي ثقافي طبقي، لتفكيك دولة 56 المُحتكرة بواسطة الظلاميين، ذات الظلاميين الذين تحالف معهم عقوداً ولياليَ طِوالاً، وليلُ الظالمين طويلُ. يظهر خطاب استعادة الديموقراطية أو جلبها من الأساس في الخطاب الدعامي و السياسي الداعم له (أو خطاب الدعم وخطاب دعم الدعم) ، يوازي هذا الخطاب عمليات القتل و الاغتصاب والتهجير و الإخفاء القسري و الاحتجاز، هذه الأفعال الجالبة للديموقراطية لا يتم تبريرها، بالطبع، بمنهج بورديو بأن “العمل التحرُّرِي له آثار استعبادية”، والذي يمكن لنصه الكاشف أن يتعدل ل “العمل التحرري له آثار [شفشافية]” هذا لو اقتصر الأمر على الشفشفة و لكنه تجاوزها لأمور كان من الصعب تخيلها عندما حدثنا محمد حمدان عن العمارات أُم كدايساً جوة، و لكن من الواضح ان هذه الانتهاكات والفظائع الحربية لا تُقلق باله، فما يُشغله هو النصرْ، و كما قرّر أحد القضاة الهنود في نقده لممارسات الحروب والإفلات من العدالة أن “الجريمة الوحيدة في الحرب هىَ أن تُهزم” .
بِبَعض المقارنات غير العميقة حول الخطابات العابرة للأزمنة يظهر أن خطاب نشر الديموقراطية هو مثل خطاب نشر الحضارة في الثقافة والممارسة الكولينيالية الغابرة، و خطاب إصطياد الكيزان يمثل حركة إصطياد الساحرات في أوروبا القروسطية، و بِمَد المقارنة قليلاً، فكِلا منظومتَى الخطاب (خطاب نشر الحضارة/اصطياد الساحرات، وخطاب نشر الديمقراطية/اصطياد الكيزان) موجهتان لجهة غير الجهة التي يُمارَس عليها الفعل، الخطاب الأول الغابر موجَّه للداخل الأوروبي الكَنَسي ثم الليبرالي (من جانب الحكومات الأمبريالية، ومن جانب التحالف الإمبراطوري المقدس )؛ أما الخطاب الثاني الحاضر فموجه للخارج الأوروبي/الامريكي الكَنَسي والليبرالي وللمحيط الإقليمي المهجوس بقضايا الإسلام السياسي (من جانب الدعم السريع وحلفائه)، وبالطبع عِلْمُنا بأن الدعم السريع والديموقراطية لا يلتقيان ليس أقل يقيناً و تثبُتاً من عملنا المُبرهَن بأن مهمة الإمبريالية لم تكن نشر الحضارة.
تُفضَح الانحيازات في عالم السياسة من الخطاب، يتشكل الخطاب من الكُل، يتكوّن الكُل من إفصاح الأفراد والكيانات عن مواقف مختلفة بصيغ مختلفة ولكن بِروح واحدة ، ففي حين تنتقد قوى الحرية والتغيير أو إطارها الأوسع قليلاً (تقدم) و قياداتهم بقسوة ودون تردد اعتقال وجلْد مواطنين بواسطة الاستخبارات العسكرية وقصف الطيران لوحدة وسَطِية ( two span girder ) في كبرى شمبات، في ذات الوقت تتجاهل ذات الكيانات والأفراد مجزرة اردمتا ودار مساليت (آلاف القتلى ومن دُفنوا أحياء )، و مجزرة ود النورة (اكثر من مائة قتيل) ، ومجزرة جلقني (أكثر من ثمانين قتيل)و أم عضام وحصار الفاشر واجتياحات سنجة ومدني وقُرى الجزيرة وسنار ودارفور واحدة تلو الأخرى وقبل كل هذا عملية تهجير [والإستيلاء على منازل] ملايين البسطاء؛ لذا فإنّ إنكار القوى السياسية للنقد المتلاحق لها بأنها تنظُر لفظائع ممارسات الدعم السريع بعين التغاضي ( ومساواتها بأخطاء القوات المسلحة) لا جدوى منه، بل إنّ هذا الإنكار يفترضُ سذاجةً مُطلقة (بل بلاهة) في الإنسان العادي غير الممارس للسياسة، فما إن تنظر لوهلة لخطابَين لتَقدم ( خطاب عن انتهاكات الدعم السريع و خطاب آخر عن أخطاء الجيش) حتى يتجلى لك بوضوح أَنَّ “صوت الريح وهي تمرُ بالنخل غيرهُ وهي تمرُ بحقول القمح” بحسب زاوية نظر شيخنا الطيب الصالح.
تظهر بلادة هذه النخبة السياسية (تعريفُها بأنها نُخبة مرتكز حصراً على تسنمها لقيادة القوى المجتمعية التي قامت بالثورة ثم قادت الإنتقال بعد ذلك) في التأثير المباشر لهذه المواقف على مستقبل الحركة السياسة، وبالطبع على مستقبل الديموقراطية، فالحديث والمطالبة بالديموقراطية تنشأ عادة من درجة متقدمة للغاية في التفاعل بين الشعوب والقوى السياسية في إهتمامها بقضايا الشعوب، وأولها هو الحق في الحياة المجردة ثم حقوقها في الحياة الكريمة (اي الحقوق الاجتماعية والإقتصادية) والحريات المدنية والسياسية، هذا التفاعل حول القضايا (الذي هو أساس العلاقة بين القوى السياسية والشعب أفراداً وجماعات) حدث فيه سقوط مذهل نسبةً للتغيُّر الجذري في خطاب القوى السياسية من خطاب مباشر وواضح وسهل في فترة حكم الإنقاذ لخطاب مُعقد و منحاز و بليد في فترة حرب الدعم السريع ضد الشعب السوداني المستمرة حتى الآن، هذا التغيُّر يُظهِر بجلاء بؤسها وبلادتها (هذا إذا فضلّنا استخدام مصطلحات أكثر حساسيةً نحو الجزم بالعمالة والخيانة) ، فقد كان خطاب هذه القوى للشعب في فترة الإنقاذ أخلاقياً وبسيطاً ( الإبادة الجماعية في دارفور و انتهاكات جبال النوبة، تكرار الحديث عن مقتل على فضل بشير سليم التاية محمد عبد السلام، معسكر العيلفون، والإعتقالات الدائمة والعسف و الظلم الإنقاذي و التضييق المعيشي)، تحول هذا الخطاب، في السنة ونصف السنة الماضية منذ بدء الحرب، لتجاهل تام لذات القضايا و الظُلامات من ذات النوع ولكن بصورة مُضخمة ومتتابعة، من مجازر اعظم و اغتصابات أفظع و تطهير عرقى و إبادة و تهجير وعمالة خارجية وتدويل وإنشاء تحالفات استعمارية بواسطة مليشيا الدعم السريع والمليشات المتحالفة معها، بل تعقّد هذا الخطاب وخرج عن البساطة بخطاب عن دولة 56 و ضرورة إفشاء السلام يا المهدي الإمام؛ للأسف لم يفتح الله على هذه النخبة أن تتحدث عن الردة القبلية والتحشيد الإثني الذي قام به الدعم السريع، بل سكتوا عنه كسياسيين يُنادون بدولة وطنية تُمارَس فيها السياسة (والتغيير السياسي) عبر مؤسسات قومية، لذلك فقد استحقوا أن نستعير لهم وصف عبد الباري في قصيدته غير ذات الصلة “ناشطون، وفي قداسةِ نارِهم، يتقهقرون بِشُعلةِ الإنسانِ ثانيةً إلى شُعَل القبيلة.”، علّهم يرعووا قليلاً أو يتوبوا، ومن تابَ تابَ اللهُ عليه.
كان يمكن لمحمد حمدان، إذا اختار مسار ختْ قَرَضْ الصبُر في الوجعة ولم يضع نفسه في مواجهة مع الشعب، أن يحكُم هذا السودان أو على الأقل أن يشارك في حكمه لفترة طويلة، نسبةً لبساطة تصورات أهله عن السياسة و رغبتهم في السلم وتقديمهم لقيمة الأمن والإستقرار، و تسليمهم لمن يتولى الأمر في بادئه بدون انفراط عقد القوات الحاملة للسلاح، كان في مقدوره أن يساوم ببعض الميليشيا مقابل المكث في السلطة لفترة أطول، ثم عقد التحالفات والتوجه نحو الإنتخابات، و لكنّ الفتى حَمْل بن بدْرٍ بَغَى، والبغْيُ مرتعهُ وخيمْ.