رأي

سيأتون مثل المنّ والسلوى من السماء

بقلم: عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا

جلس الطفل على حافة الركام، يحمل في يده حجرًا صغيرًا وقطعة خبزٍ يابسة.
كان الغبار يغطي وجهه، والريح تعبث بشَعره كأنها تحاول أن تخفي حزنه الصغير.
اقترب منه حكيمٌ شائب، بعينين كأنهما خزانة من وجع القرون، وقال بصوتٍ خافت:
– ما الذي تفعل هنا يا صغيري؟

رفع الطفل رأسه، وفي عينيه أسى يفوق عمره، وقال:
– أبحث عن أمي يا عمّي… ذهبت إلى السماء، لأن جدّتي والدكتور لم يجدوا لها الدواء.
تجمّدت الكلمات على لسان الحكيم، فسأله برفق :
– و أين جدّتك؟
قال الصبي:
– ذهبت هي وأختي لتلاقيا أمي هكذا أخبرتني جارتنا… بعد أن انهدمت المدرسة التي كنا نسكن فيها مع أهل حارتنا .

تنهد الحكيم ومسح على رأسه، ثم سأل بصوتٍ مبحوح:
– هل أنت الأكبر أم أختك يا ولدي؟
قال الصغير وهو ينظر إلى الأفق المحترق:
– بل أنا أصغر منها، لكنها يا عمي لم تأخذ دميتها معها… كانت تحبها كثيرًا.
ساد صمتٌ طويل، لا يُسمع فيه إلا صفير الريح بين الجدران المهدّمة.
ثم قال الحكيم وهو ينظر إلى الطفل كمن يخاطب أحزان التاريخ:
– يا بنيّ، كيف يحتمل قلبك كل هذا؟
قال الصبي:
– أنا لا أحتمل يا عمّي، أنا فقط أنتظر أن تعود أمي من السماء، ربما تحمل لي بعض الأشياء لألعب بها.
جلس الحكيم إلى جانبه وقال:
– هل تخاف من الطائرات والمدافع؟
قال الطفل:
– لا يا عمّي… هي لا تراني، لكن أمي قالت لي إنها تخاف من قلبي.
ابتسم الحكيم ودمعة تتدحرج على خده:
– صدقت أمك يا بنيّ… الطائرات تخاف من القلب، لأن القلب حين يسكنه الإيمان يصبح أثقل من الحديد.
سكت الطفل قليلاً ثم سأل:
– يا عمّي، أين العرب؟ ألم يقولوا إنهم إخوتنا؟
قال الحكيم وهو يشيح بوجهه نحو الغروب:
– العرب يا صغيري، بعضهم نسي المواعيد، وبعضهم ما زال يبحث عن الشجاعة والمروءة في نشرات الأخبار.

ثم همس الطفل بصوتٍ صغيرٍ قويّ:
– وأين المسلمون؟
ابتسم الحكيم ابتسامةً حزينة، لكن الطفل سبقه بإيمانٍ يحفر في الوجدان، قائلًا:
– قالوا لنا في المدرسة قصيدة هل أقولها لك، فقال الحكيم قل يابني.
قال الطفل:
مهما هم تأخروا، فإنهم يأتون،
من كل فجاج الأرض سيأتون،
من غزة او من حيّفا يأتون
من درب رام الله او من جبل الزيتون…
يأتون.. ياتون مثل المنّ والسلوى من السماء

قال الحكيم وهو ينحني نحو الطفل:
– سيأتون يا بنيّ، والمهم ألا يموت فيك الرجاء قبلهم. بعض المواعيد تتأخر لكنها لا تُلغى.
أمسك الطفل بالحجر وقال:
– سأبني بهذه الحجارة بيتًا لأمي وجدّتي وأختي حين نعود، لأن المدرسة التي كنا نسكن فيها قد تهدّمت.

قال الحكيم والدمع يبلّل لحيته:
– ابنِ يا بنيّ بالحلم، فالأوطان تُقام أولًا في القلب، ثم في الخيال، ثم تُشيّد في الواقع.

نهض الشيخ ووضع يده على كتف الصبي، وقال كأنه يخاطب الغياب:
– ما ماتت فلسطين يا صغيري، بل صعدت مع أمك إلى السماء، تنتظركم أنتم الذين تعيشون على الأرض لتعيدوها إلى الحياة.

وأجاب الطفل، وصوته يختلط بأنين الريح
– سنعود يا عمّي… سنعود، ولو مشينا على الشوك أو على السحاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى