كان موسم الخريف أشبه بمهرجان تسوُّق في الأبيّض، تعيش فيه المدينة طقساً احتفالياً: تُجلب المحاصيل الزراعية والألبان ومنتجاتها من جميع قرى كردفان ومدنها وكذلك من دارفور. هذا العام، ورغم أن الخريف كان مُبشِّراً، أحجم الناس عن الزراعة بسبب الأوضاع الأمنية التي يشهدها إقليم كردفان، إذ باتت مدنه وقراه على خط النار، ما أثّر على الأبيّض التي عانت من شحّ في المحاصيل، خاصة بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة النهود، وهي إحدى المدن المُشكّلة لنسيج الاقتصاد في كردفان، وبها سوق محصول لا تقلّ أهميته كثيراً عن سوق محصولات الأبيض.
لا تزال المدينة شبه محاصرة، رغم فك الحصار من جهة الشرق على الطريق القومي الرابط بينها وكوستي؛ وتُسيطر قوات الدعم على مدن وقرى الطريق القومي غربها مثل النهود والخوي، وإلى الجنوب منها تسيطر على الدبيبات. ورغم استعادة مدينة بارا شمال شرق الأبيض، إلى سيطرة القوات المسلحة، لا تزال المعارك بينها والدعم السريع مندلعة على الطريق القومي الرابط بين الأبيّض وأم درمان.
من جهة النهود
كان تعرُّضُ رأس المال الذي يُموّل العملية الزراعية للنهب، إضافة إلى سرقة المحاصيل والممتلكات والشاحنات في مدينة النهود جنوب غرب الأبيض؛ قد أثّر تأثيراً بالغاً على سوق الأبيض، كما ينبّه علي جانو، أحد التجار بسوق محصولات الأبيض، في حديثه لمراسلة «أتَـر». ويقول: «أمطار الخريف غزيرة، لكن الزراعة ضعيفة، خاصة في منطقة دار حَمَر، وأتوقّع أن تكون المنطقة المزروعة صغيرة، وحتى إذا زرعوا فليس لديهم تمويل لمتابعة مطلوبات الزراعة والحصاد والترحيل».
ويوضح جانو أن المحاصيل كانت تُجلب سابقاً من النهود ودارفور ومناطق أخرى مختلفة في كردفان إلى سوق الأبيّض، ومنها الفول السوداني وصمغ الطلح وصمغ الهشاب وبعض المحاصيل الأخرى، لكن بعد استيلاء الدعم السريع على النهود وسرقة صمغ الهشاب وترحيله إلى دارفور ومن ثمّ إلى تشاد بكميات كبيرة، وصل سعر قنطاره في سوق الأبيّض إلى 700 ألف جنيه، وكان يُباع القنطار منه من قبْل بـ 350 ألف جنيه، مع الندرة. أما بقية المحاصيل كالفول المقشور، فقد أصبحت تُجلب من مناطق مُختلفة لكن بمخاطر عالية، ويتعرّض أصحابها للخسارة بسبب ما يدفعونه من جبايات باهظة تفرضها ارتكازات قوات الدعم السريع على أصحاب الشاحنات، تصل إلى ما بين 30 و40 مليون جنيه للشاحنة الواحدة.
ويَضرب جانو مثلاً بما حدث لبعض الشاحنات المُحمَّلة بمحاصيل وهي في طريقها إلى سوق الأبيض الأسبوع الماضي، إذ اعترضتها قوات الدعم السريع فارضةً عليها غرامات كان نصيب الشاحنة الواحدة منها 50 مليون جنيه، وحتى بعد أن دفعوا المبالغ المقرّرة عليهم نَهَبت القوات الشاحنات بما تحمل من محصول.
لكن مع ذلك، تمكَّن بعض التجار من ترحيل الفول من النهود إلى الأبيّض باللواري عبر منطقة عيال بخيت شمالَ غرب الأبيض، لتفادي قوات الارتكازت وتقليل الخسائر. ورغم أن الفول متوفر حالياً في سوق الأبيض، يُحجم التجّار عن شرائه بسبب ارتفاع سعره. وكان سعر طن الفول المقشور يبلغ حوالي 1.4 مليون جنيه قبل سيطرة الدعم السريع على النهود، بينما وصل سعره حالياً إلى 3.8 مليون جنيه، ويَتوقع التجار أن يزيد عن ذلك في مقبل الأيام.
كان جانو قبل أيام في نيابة الأبيض، وعَلِمَ من وكلاء نيابة وموظفين أن النيابة تتلقى عشرات البلاغات يومياً من مواطنين تعرّضوا للضغط والابتزاز لتحويل أموالهم إلى أفراد الدعم السريع عبر تطبيق بنكك، وقد جاءوا لفتح بلاغات في محاولة يائسة لاسترجاع أموالهم. ويؤكّد جانو أن تأثير سيطرة الدعم السريع على غرب كردفان بفرضها جبايات على الشاحنات المتجهة إلى مدينة الأبيّض لم يَطُل المحاصيل فقط، بل أثّر أيضاً على الحركة التجارية جميعها، فبات وارد الثروة الحيوانية إلى المدينة محدوداً، ووصل سعر كيلو الضأن في الأبيض إلى نحو 30 ألف جنيه، وكيلو البقر العجالي إلى 22 ألف جنيه، ورطل اللبن إلى 1800 جنيه.
من جهتي بارا والرهد
تأثّرت مدينة الأبيّض بسيطرة قوات الدعم السريع على مدينة بارا منذ شهور الحرب الأولى. وتمثل بارا، شمال شرق الأبيّض، معبراً للوصول إلى أم درمان أو التوجّه الى الولاية الشمالية. عانى سوق مدينة الأبيض طوال فترة سيطرة الدعم السريع على بارا من ندرة الخضروات التي كانت ترفدها بها جارتها. متحدّثاً لـ«أتَـر»، يقول مواطن من بارا – فضّل حجب اسمه – إنه في بداية سيطرة الدعم السريع على مدينة بارا، أظهر أفرادها أنهم حضروا لحفظ الأمن، فظلّ الوضع هادئاً لبعض الوقت، وكان التنقّل بين المدينتين سهلاً بالنسبة للركّاب والبضائع وعربات الخضار؛ لكن تغيّر الأمر بعد فرار الدعم السريع من أم درمان والصالحة، ووصول قواتها المنسحبة إلى بارا. يقول المواطن إن تلك القوات طبّقت سياسة جديدة في التعامل مع السكّان، إذ ارتكبت كثيراً من الانتهاكات والعنف، ومنعت الناس من استخدام ستارلينك، وأحرقت عدداً من الأجهزة الخاصة بالمواطنين، ما جعل المنطقة معزولة عن العالم. كذلك منعت السكّان من الذهاب إلى الأبيض أو أي مكان آخر، كما ارتكبت مجازر في بعض القرى القريبة. بعدها بدأ المواطنون في النزوح ناحية الأبيض التي أصبحت تضمّ نازحين من ثلاث ولايات شمال وغرب وجنوب كردفان، إضافة إلى مواطنين من غرب الأبيض نزحوا من أب حراز وأم رماد وأب قعود وأم صميمة.
ومع اكتظاظ النازحين في مدينة الأبيض وتطاوُل أمد الحصار عليها، ارتفعت أسعار السلع الغذائية. يقول مواطن آخر من الأبيّض، تحدّث لمراسلة «أتَـر»، إن أصغر أسرة في الأبيّض تحتاج إلى حوالي 20 ألف جنيه يومياً. ووصل سعر طبق البيض إلى 30 ألف جنيه، وكان يبلغ سعره من 7 إلى 8 آلاف جنيه، ووصل سعر كيلو الفراخ إلى 24 ألف جنيه. وارتفعت أسعار الخضروات بشدة مع ندرتها، وليس بمقدور جميع الأسر شراؤها يومياً كما كان في السابق.
أسهم فك حصار الأبيض من جهة الشرق في وصول الخضروات من كوستي وربك والجزيرة، وكذلك من الحِقينة جلّابة، ريفي الرهد، خاصة في فترة الخريف. ووصل سعر كوم البطاطس (4 قطع) إلى 5 آلاف جنيه سوداني أثناء سيطرة الدعم السريع على الطريق القومي الرابط بين الأبيض وكوستي، والتبش (3 قطع) 5 آلاف جنيه، وكوم البامية 3 آلاف جنيه، و3 حبّات أسود 3 آلاف جنيه، و3 حبات طماطم 5 آلاف جنيه. بعد خروج الدعم السريع منطقة الحقينة بدأ مواطنوها الزراعة، إضافة إلى الرهد أب دكنة جنوب شرق الأبيض، ما أدّى إلى توافر نسبيّ في الخضروات داخل سوق الأبيض. ويَتوقّع سكّان الأبيض وتجّارها انفراجاً نسبياً في أسعار الخضروات بعد سيطرة الجيش على مدينة بارا، مع عودة سكّانها واستئناف العمل الزراعي في البساتين والجنانين.
من جهة كازْقيل
خلال فترة الحرب انعدمت الأجبان في المدينة، وكانت تُجلب من كازقيل جنوب الأبيّض. متحدثاً لـ«أتَـر»، يقول ياسر، صاحب محل أجبان ومنتجات ألبان بسوق الأبيض الكبير، إنّ معظم الشباب في كازقيل حملوا السلاح من أجل المال، وفقَد السكّان أبقارهم نتيجة للسرقة من جهات مختلفة، ولم يتبقَّ في المنطقة سوى النساء وبعض الرجال المُسنِّين الذين لا يستطيعون الرعي وحماية الأبقار؛ لذا توقف إنتاج الأجبان في المنطقة. اضطر ياسر وتجّار آخرون إلى التوجه إلى مناطق متاخمة لمدينة الرهد وأبو كرشولا لجلب الأجبان، لكن إنتاجها قليل، وهي كميات يصفها ياسر بأنها لا تكفي مع ارتفاع أسعارها. والحال كذلك، وصل سعر جردل الجبنة داخل سوق الأبيّض إلى ما بين 120 و130 ألف جنيه بعد أن كان يُباع بـ 40 ألف جنيه فقط قبل الحرب. حالياً بدأ تجّار الأجبان في المدينة التعويض من مناطق التبرات في النيل الأبيض. وبسبب الحصار كان تجلب كميات قليلة منها مع بعض العربات التي تسلك طرقاً جديدة غير مستخدمة عن طريق تندلتي ثمّ أم دم حاج أحمد ومنها للأبيض.
حبس بضائع
وظلّت أزمة الغاز طوال فترة الحصار تراوح مكانها في المدينة، إذ وصل سعر جوال الفحم إلى 60 ألف جنيه، ولا تزال عمليات قطع الأشجار داخل المدينة وحولها واستخدامها حطباً مستمرة، ما أثر على الغطاء النباتي والغابي. ومع ندرة الغاز، سعّرت وزارة المالية بالولاية تكلفة الأسطوانة بـ 70 ألف جنيه، لكنها غير متاحة للسكّان مباشرة، وتُباع في السوق الأسود بـ 90 ألف جنيه، كما أخبر أحد مواطني الأبيّض «أتَـر».
أثّر الحصار كذلك على توفر مواد البناء في الأبيّض، بسبب الجبايات التي فرضتها الدعم السريع على أصحاب الشاحنات، إضافة إلى النهب، وهو ما جعل التجّار غير حريصين على جلب البضائع إلى المدينة، إضافة إلى أنهم لا يستطيعون التوزيع للمدن الأخرى مثل الدبيبات وأبو زبد وبابنوسة وغبيش، لأن الطرق مغلقة تماماً ولا توجد حركة تجارية في تلك الأنحاء.
يقول أحد تجّار الأبيّض: «حتى بعد فكّ الحصار عن مدينة الأبيض، ما زالت الدعم السريع تحدث المشكلات وتعرقل خروج البضائع من المدينة، لذا أصبح استهلاك السوق محلياً مع قلته بسبب عدم توفر السيولة وخوف المواطنين من سقوط الأبيض، وأغلب شركات الإعمار والبناء توقفت بعد الحرب».
وفوق ذلك، أصدرت الحكومة قراراً بعدم خروج البضائع من مدينة الأبيض إلا بتصديق من الحكومة والاستخبارات والأمن، ما ثبّط من حماس التجار، فضلاً عن ضعف القوة الشرائية لمواد البناء والكهرباء. يقول التاجر: «حالياً تُنقل البضائع من الدبة إلى دارفور وكردفان».
نقلا عن مجلة اتر
