عبدالعزيز يعقوب
أيها الشباب،
أنتم جيلٌ وُلد في فجر الانكسار، وشبّ في ظلال الأسئلة، وتورّط في الإجابات قبل أن تنضج الأسئلة. لكننا، رغم الدماء والحطام والخذلان، لا نزال نرى في أعينكم بريق الأمل. هذه ليست كلمات عابرة، بل استدعاء لعزيمة دفنتها النكبات، ولم تمت. فلنُعد بناء الحلم، لا بتكرار ما فشل، بل بصناعة ما لم يُجرّب.
لقد دخل السودان طورًا من التهشيم الكامل لمؤسسات الدولة، وفقد جيلكم البوصلة حين غابت المشاريع الكبرى، وتمزقت الروح الجمعية بين الحرب والتيه واللجوء واللامعنى. غير أن التاريخ يعلمنا أن النهضة تولد من رحم الكارثة. فحين تنهار البنى القائمة، تكون الفرصة سانحة لإعادة البناء من الأساس، لا على نسق الماضي، بل وفق خيال جديد. والمفتاح في هذا كله أنتم.
ليس المطلوب منكم أن تنتظروا مائدة من السياسيين، فهم في غالبيتهم تائهون، يلهثون خلف شرعية زائفة من قاعات مغلقة، وخلف الكواليس المظلمة ، وفي دهاليز خارج الحدود، أو يبحثون عن مكاسبهم وسط الرماد. المطلوب هو أن تمسكوا زمام المبادرة من داخل معاناة هذا الشعب، وتطرحوا مشروعًا لبناء الدولة يكون بيد الجيل الذي دُفن حلمه تحت الركام، لا من خلال حوار النخب المتعبة والفاشلة.
إن نهضة السودان لن تأتي بشعار أو بيان، بل بخطة عملية، تعيد للناس أدوات الإنتاج، وتمنحهم الأمل من خلال أفعال ملموسة. علينا أن نبدأ من حيث نحن، لا من حيث يتمنّى المنظّرون. بأهداف بسيطة وعملية ويمكن تحقيقها في أرض الواقع، نحتاج إلى تعبئة الطاقات الشبابية وتحويلها إلى قوة عمل منتجة. وهذا يتطلب
أولاً: التركيز على الصناعات الصغيرة كرافعة أساسية للتنمية. هذه الصناعات لا تحتاج لرؤوس أموال ضخمة، ويمكن أن تنتشر في الريف والحضر معًا، وتوفّر فرص عمل سريعة، وتعيد تدوير الاقتصاد المحلي من القاعدة لا من القمة. علينا أن نعيد الاعتبار للنجارة، والحدادة، وتصنيع المنتجات الغذائية، وصناعة الطوب، والجلود، والملابس، وكل ما يمكن أن نبدع فيه بأدوات بسيطة.
ثانيًا: تبنّي مشروع للتدريب المهني والتحويلي يستهدف خريجي الجامعات ممن لا يجدون وظائف، ويوجّههم نحو الزراعة، والصناعة، والتسويق، ببرامج عملية قصيرة المدى لكنها كثيفة المردود. هذه البرامج لا تكون نظرية، بل ميدانية، تُقيم الورش في القرى والمدن، وتفتح الشراكات مع القطاع الخاص، وتُعيد الثقة إلى قيمة “المهنة” بعيدًا عن وهم “الوظيفة”.
ثالثًا: الاستفادة من التجارب السودانية الناجحة كنماذج للإلهام. تجربة التصنيع الحربي في السودان، رغم شوائبها السياسية، أثبتت قدرة العقول السودانية على الإبداع في مجال معقّد. وتجار مثل الراجحي أو شركات مثل زادنا، قدّموا نماذج في الاستثمار الزراعي والإنتاجي يمكن البناء عليها، لا بتمجيد الأسماء،وتكرار الأخطاء بل بفهم الأساليب وتحسين المنهج وتقييم التجارب وتحويله إلى مشروع وطني جامع.
رابعًا: دراسة تجارب شعوب أخرى، فهناك كثير من البلدان التي مزّقتها الحروب والنكبات، ولكن ما ميّز بعضها هو أن شبابها لم يقفوا عند حافة الرصيف، بل انطلقوا ليصنعوا المعجزة.
1. تأمّلوا تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، بلاد محروقة بالكامل بقنابل نووية، لكنها وقفت خلال عقد واحد على قدميها وصارت من أقوى اقتصادات العالم.
2. انظروا إلى كوريا الجنوبية، التي تحوّلت من دولة تتلقى المساعدات الدولية إلى واحدة من أنجح قصص التصنيع والإبداع.
3. وراقبوا سنغافورة، التي خرجت من مستنقع الفقر العرقي، لتصبح أيقونة اقتصادية عالمية.
4. ورواندا، التي مزّقتها الإبادة الجماعية، لكنها خلال عشر سنوات فقط أعادت بناء ذاتها بإرادة صلبة وتحول وطني شامل.
السر لم يكن في المعجزات، بل في العقول، والإرادة، والعمل، والتصميم. هذه ليست أحلامًا مثالية، بل خطوات ضرورية كي لا نبقى رهائن للحرب. فالخراب الذي حلّ بنا لن يُمحى بخطابات العزاء، بل بإعادة بناء الوطن من الطين والعرق. والمهمة تقع على عاتقكم، أنتم الذين لم تفسدكم السلطة بعد، ولم تُرهقكم الهزائم كثيرًا.
ابدؤوا بالممكن، واسعوا نحو المجدي، ولا تيأسوا من الحلم ولو ضاقت عليكم الأرض. نحن جيلٌ صُنع في المحنة، والمحن لا تقتل إلا من خان روحه. أمسكوا بالأرض، بالمعرفة، بالعمل، فذلك هو طريق النجاة.
إن السودان اليوم لا يبحث عن قائد، بل عن جيل يقوده المستقبل لا ماضيه
