روحي ليه مشتهية (ود مدني)؟
خالد البلولة
فرحة عارمة غمرت قلوب السودانيين بمودة صادقة،ودموع حرى انسكبت بمحبة، وعزة، وكرامة،وإجلال،وفخر، حينما انتفضت صرة السودان(ود مدني)، مؤدية فرض الطاعة للقوات المسلحة السودانية، ومتمردة على أوباش آخر الزمان. رقص الرجال،زغردت النساء، طرب الأطفال، وبكى كبار العسكر،وفاءً للوعد الحر الذي أزاح كابوساً جثم على صدور أهلنا وذوينا وحرائرنا.
آه.. دار أبويا ومتعتي وعجني
يا سعادتي وثروتي ومجني
عشت في ود مدني أزهى وأنضر سنوات عمري. زرتها وأنا طفل قرير العين، وكبرنا فيها وكبرت أحلامنا،لتصبح زاهية في عيوننا، متغلغلة في قلوبنا، ومتسربة في مسامنا. مدني، التي تغنى بها خليل فرح، شاعر السودان الذي نثر الدر في ربوعها بلسان عربي مبين، وسكب عصارة مشاعره الجياشة ورهافة إحساسه وصدقه.طرح سؤاله الذي ظل خالدا عبر عقود طويلة :
*روحي ليه مشتهية ود مدني؟*
هذا السؤال يطرحه كل من عاش في ود مدني وشهد مأساتها بعد أن دنّسها الرجرجة والسوقة وأوباش الزمان.
وروحي ليه مشتهية ود مدني؟!
ليت حظي يسمح ويسعدني
طوفة فد يوم في ربوع مدني
من لم يشتق أو يشتهِ ود مدني،لم يعرف إنسانها وأحياءها وملاعبها،ولم يعش دفء دور السينما فيها،أو يصادق (اولادها) ويتزوج بحسانها أو يدرس الأدب واللغة والتاريخ على يد اساتذتها “قيسان” أو أستاذ “خاطر”الذي علّمنا التأنّي والتريث، وهو يردد عبارته الشهيرة:(لو صبر القاتل لمات المقتول).
كيف لا تشتهي ود مدني وأنت تضبط إيقاع حياتك (موسيقياً وعسكرياً) على يد الصول (مليجي)في مدرسة مدني الثانوية،وتتخرج طالباً، لا (لايص ولا نايص)بل:
فتى أخلاقه مثلُ
وملء ثيابه رجلُ
يعج الحق في دمه
ويزحم صدره الأملُ
تراه الصبح مبتسماً
كأن حياته جزلُ
ينم سلوكه عنه
ويتبع قوله العملُ
روعة مدني يجسدها خليل فرح عندما تجيش مشاعره لتلك البقعة الطاهرة، ود مدني، لزيارة شيخها ومؤسسها:
كنت أزور أبويا ود مدني
وأشكي ليه الحضري والمدني
آه.. على حشاشتي ودجني
وحنيني ولوعتي وشجني
هذه الأهزوجة الخالدة التي ابدعها خليل فرح، تظل قلادة في جيد الغناء السوداني، تعبر عن كل عاشق ومجنون بهوى “أم المدائن”، درة النيل الأزرق.التي تغزل فيها عمر الحاج موسى يوم انطلق بث تلفزيونها فقال:مدني السُّني،حسناء الجزيرة وغادتها الراقدة على شاطىء النيل الأزرق،مستحمة من مائه،مستجمّة على رماله،مستدفئة بحبابه، مستكنة في رحابه، متوسّدة تربه وترابه، حرفَه وجرفَه”.
ينطبق على ود مدني،(صرة الجزيرة) وحاضرتها قول الشاعر توفيق صالح جبريل عن مدينة الدامر:
“أيام دامر المجذوب لا أنت قرية
تبدو بداوتها ولا أنت بندر”
ود مدني هي صرة الجزيرة بإنسانها، ومشروعها، وقبة شيخها السني، وأهلها الغر الميامين،هم عنوان الطيبة والسماحة والتسامح والتكاتف،يظهر معدنهم الأصيل في نجدة الملهوف والضعيف.
تبقى مدني كريمة، عزيزة، مرفوعة الرأس، كبيرة في نفوس أهلها وساكنيها، مهما تكالبت عليها الإحن والمحن،فقد أبانت محنة ود مدني طبيعة الكريم وقيم اللئيم، كما قال المتنبي:
إنَّ الكريم إذا تمكَّن من أذى
جاءته أخلاقُ الكرام فأقلعا
وترى اللئيم إذا تمكَّن من أذى
يطغى فلا يُبقي لصلحٍ موضعا.