رأي

رجال حول القوات المسلحة (14) .. اللواء الركن محمد عبدالرحمن البيلاوي عزم الرجال وصبر الأبطال 

 

العميد م.د.محمد الزين محمد

حين تحتدم المعارك، وتتكسّر الأقنعة، وينكشف زيف الشعارات، لا يبقى في الساحة إلا من تربّى على الوفاء، وتدرّب على الثبات، وتشرب الكبرياء من ماء المروءة. هناك، حيث يُختبر صدق الرجال، ويعلو صوت الفداء على كل نداء، يبرز رجل لا يشبه سواه.

وهناك فقط، يُفرز المعدن الأصيل من الزائف، فليس كل من ارتدى الزي فارساً، ولا كل من تقلّد النجوم قائداً، فالمواقف وحدها تصنع المجد، وتصقل الهامات. وفي كل زمان، يولد رجلٌ تختزل ملامحه مآثر البطولة، ويجعل من جراحه مداداً يكتب به سفر الخلود. ذلك هو اللواء الركن محمد عبدالرحمن، سيفٌ لا يغمد في وجه الباطل، شوكةٌ في حلق الأعداء، ورمحٌ لا ينكسر في معارك الكرامة والشرف. قائد إذا نطق صدق، وإذا عاهد وفى، وإذا التهب الميدان، كان أول من يتقدم الصفوف.

من قرية البيلاوي بجنوب الجزيرة كان مرتع صباه. حفظ أجزاء من القرآن الكريم كما نهل من معين العلم والأدب، وتشرب بقيمها وأفضالها. أدبه والده فأحسن تأديبه وورثه الصدق في القول والإخلاص في العمل والإقدام دون وجل. وفي مثل هذه القامات، يتجلى معنى قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادِ﴾، فمن كان ثابتاً على الحق في ميادينه، كان أثبت يوم يقوم الأشهاد.

ظلّ الأول في دراسته، والأسبق في مضمار التفوق، حتى تبوأ مقعده في الدفعة (41) من الكلية الحربية السودانية، ليمضي في درب المجد ولسان مقامه

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحزم ونائل

فكان النجم الساطع في سلاح الإشارة، متنقلاً بين جبهات القتال في الجنوب قبل الانفصال، ثم في القوات المشتركة السودانية التشادية، فقائداً للقوات المشتركة السودانية الليبية، ثم ملحقاً عسكرياً في المملكة المتحدة، حيث مثل السودان بصلابة العسكري وأفق الدبلوماسي. لم تزده الأوسمة والتشريفات، إلا زاداً وإقداماً لا يعرف الوهن أو الضعف أو التثاقل أو التلجج ولا يرتاح إلا وسط جنوده – فٱثر وجوده بينهم

يقول ابن عربي

الإيثار لا يعول عليه الكبار والبيلاوي من الكبار

مثل هؤلاء الرجال العظام لا شاكلة لهم إلا ما تقرأه في حياة العظماء .

حين اندلعت الحرب، لم يكن اللواء الركن محمد عبد الرحمن في برجٍ عاجٍ، بل كان في قلب الميدان، يذود عن الأرض والعرض، ويقود الرجال كما يليق بالقادة الكبار. أصيب في معركة جبل أولياء إصابةً كادت أن تُقصيه عن القتال، فاستأصل الأطباء جزءاً من أمعائه بسبب الرايش، لكنّ روحه الوثّابة صوب المعالي ظلّت ماضية في طريقها. لم ينتظر أن تلتئم جراحه، بل عاد إلى المعركة وكأن دمه وقودٌ يُذكي فيه العزيمة.

ما إن استقام على قدميه حتى حمل الراية من جديد، يقاتل وهو مصاب، ويقود وهو جريح. تولّى قيادة المتحركات في بحري حتى كسر الطوق المضروب على سلاح الإشارة، ثم انتقل إلى الخرطوم ليحطم قيود الحصار عن القيادة العامة، قبل أن يقود معركة القصر حتى استعاد السيطرة عليه، لتتحرر الخرطوم تحت رايته، ولا يزال ماضياً في عزمٍ لا يلين وثباتٍ لا يتزعزع.

اليوم، يقف اللواء الركن محمد عبد الرحمن شامخاً بما قدّم، حتى أضحى أيقونةً للصمود. ولا تزال الخرطوم وبحري تذكر وقع خطاه، ولا تزال ساحات المعارك تردد صدى صوته، وسيظل اسمه منقوشاً في سجل الخالدين، حيث لا يُكتب المجد إلا بدماء الشجعان، ولا تُخلّد الرجال إلا حين يكونون مثله، عنواناً للإقدام والتفان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى