د. على الله عبدالرازق على الله يكتب: التسوية السياسية المرتقبة: فريضة غائبة أم مستحيلة
alalla@gmail.com
1
كثر الحديث و المغالطات و الجدل العقيم خلال الأسابيع الأخيرة من شهر أكتوبر المنصرم ، حول احتمالية حدوث تسوية سياسية مرتقبة ، تعيد الشراكة بين المكونين العسكرى و بعضا من القوى السياسية و الحزبية ، عليه فإن المتابع لذلك ، يرى أن المكون العسكرى لم يعلق بصورة واضحا حتى الان على هذه الرائجة ، بينما ظلت مكونات المجلس المركزى لقوى الحرية و التغيير ، ترسل دوما إشارات و رسائل بقرب توافق جديد بينهما و المكون العسكرى ، فيما ظلت قوى و تنظيمات سياسية معارضة لهذه الأنباء التسربية عن اتفاق عسكرى مدنى وشيك الحدوث ، محذرة هذه القوى المعارضة من مغبة إعادة تدوير اتفاق ثنائى ، قد يفضى إلى أزمة جديدة أعنف من سابقاتها…
2
حيث يرى العديد من المراقبون المحليون ، الذين اكدوا أن تداعيات هذه التسريبات قد تكون بمثابة اقبار للتسوية مبكرا ، و دعوا فى كثير من الأحيان على ضرورة إيجاد اتفاق شامل للمشكلة ، يخاطب جذور الأزمة للدولة السودانية ، حتى لا يتيح الامر الفرصة مره اخرى إلى إنتاج مشكلة سياسية بإبعاد جديدة و تجليات مختلفة…
3
بينما أعلنت قوى سياسية مدنية وحركات مسلحة موقعة على إتفاق سلام جوبا ، رفضها لاى تسوية سياسية تفضى إلى شراكة بين المكونين العسكرى و المدنى ممثلا فى المجلس المركزى لقوى الحرية و التغيير ، وتحالف القوى المتحالفة معه ، و فى مقدمتها مجموعة التوافق الوطنى ، المبادرة السودانية للترتيبات الدستورية ، و الحزب الشيوعي المعارض ، حزب البعث العربي الاشتراكي ، الاتحاد الديمقراطى الهيئة القيادية ، مجلس الصحوة ، حركتى عبدالواحد نور ، الحلو ، ميثاق التراضى الوطنى بقيادة حزب الأمة ، هذا بجانب عددا من التيارات الإسلامية ، فى جانب آخر ، انتقد العديد من المعارضين تصريحات فولكر لهذه التسريبات ، و إشاروا إلى أنها مضللة ، و هى بالحقيقة الا عملية تزوير ليس الا ، و اعتبروا أن التكهنات و الترتيبات بشأن التسوية السياسية ، اذا ما قورنت بتصريحات البرهان فى العديد من اللقاءات و المناسبات ، يتأكد أنها غير حقيقية و لا متسقة مع الرائجة ، و هى تاكد عدم احتمالية لاى تسوية سياسية ثنائية مرتقبة باقصاء الأطراف السياسية الأخرى….
4
عادة ما يطرح مفهوم التسوية السياسية كخطوة ضرورية و لازمة لأحداث تغيير جذري فى الواقع السياسى و الاجتماعى للسودان ، بالرغم من الإشارات و الأهمية المستمرين للتسوية السياسية و ضرورتها فى الراهن الماثل ، فإن الحديث عنها يكتنقة حالة من الغموض و اللبس الشديدين ، بشكل يصعب معه تحديد الجوانب و الخطوات الإجرائية التى تتطلبها التسوية السياسية ، و تكمن كذلك الصعوبة فى تحديد ماهية و منهجية التسوية السياسية و آليات عملها ، مما يتطلب التفكر و التفكير فى طبيعة المفهوم ، و النظر و البحث فى جذورة النظرية والتطبيقية له…
5
على اى حال ، لو تمعنا البحث فى كتابات العديد من المثقفين و السياسيين السودانيين الداعين إلى ضرورة حدوث تسوية سياسية تاريخية ، يتضح أن هناك مجموعة من الخصائص المشتركة ، التى يمكن أن يستخلص منها تصورا عن التسوية السياسية ، حتى يتسنى أدارة نقاش و نقد حولها… تبدأ أغلب هذه الكتابات بضرورة اهمية إيجاد حل للنزاع المحتدم بين اليمينين و اليساريين السودانيين ، يفضى إلى توافق حول علاقة الدين بالدولة ، إقامة نظام للحكم ديمقراطى توافقى تحفظ فيه الحقوق و الحريات العامة لكل المجموعات السياسية ، يدار عبره الصراع بطريقة سلمية ، هنا لابد من الإشارة إلى أن دعاة التسوية السياسية ، ينبغى أن يمضوا نظرا إلى أبعد من ذلك و ضرورة مخاطبة القضايا التى تشكل جذور الفشل السياسى لكافة المشاريع السياسية و الاقتصادية والاجتماعية و غيرها فى السودان ، التى ترتبط أغلبها بالاختلال فى توزيع الثروة و السلطة ، و سؤ إدارة التنوع الثقافي بين الاثنيات و الأعراق المختلفة ، و بذلك تكون جهود التسوية السياسية المنشودة عندهم ، عبارة عن مساومة تاريخية للتوافق حول مشروع وطنى لأجل بناء دولة سودان ما بعد الاستقلال ، و بذلك تتنقل التسوية من كونها مجرد اتفاق على الانتقال الديمقراطى المدنى ، التبادل السلمى للسلطة إلى إرساء أسس جديدة لمشروع بناء الأمة ، يهدف إلى استخدام أساليب متنوعة عديدة لتكوين جماعة قومية حديثة ، تجدر الإشارة هنا ، فقد تبرز مشكلة أخرى تنضاف لعمومية ماهية التسوية السياسية المفرط فيها ، و هى صعوبة توفر حادثة تاريخية تجمع كل خصائص التسوية التى يتم الحديث عنها ، فأغلب المساومات السياسية و تجارب الحوار الوطنى فى السودان ، لم تفضى الى تأسيس نظام ديمقراطى و بناء امه ، أو معالجة الاختلالات فى إعادة توزيع الثروة دفعة واحدة ، بل اكتفى أغلبها بتحقيق الانتقال الديمقراطى فقط ، أو بالوصول إلى ترتيبات تحفظ استقرار النظام الديمقراطى ، و فى احيانا كثيرة ظل حفظ الاختلال فى توزيع الثروة هو التكلفة التى ظلت تتحملها القوى الشعبية الأخرى مقابل الديمقراطية ، بدلا من أن تؤدى التسوية إلى إلى إيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بالاختلال فى توزيع الثروة و غيرها …
6
يعتبر الجمع بين بناء الأمة و تحقيق الوحدة الوطنية من ناحية ، و الانتقال الديمقراطى من ناحية أخرى ، أصعب النقاط فى هذه الخصائص ، و ذلك لجهة أن أغلب نظريات الانتقال الديمقراطى تعتبر الوحدة الوطنية شرط ضرورى ، لا يمكن تحقيق الانتقال دونه. لعل أبرز نظريات الانتقال التى تؤكد على ذلك نموذج د. روستو ، حيث يجادل روستو ، فيما يرى ، أن الانتقال الديمقراطى ، يتم عبر ثلاث مراحل و شروط ، أولى هذه هذه الشروط ، هو تحقيق الوحدة الوطنية ، التى تتمثل في وجود احساس مشترك لدى المواطنين بالانتماء إلى كيان سياسى جامع و هو الوطن ، و ثانى هذه الشروط ، يتمثل فى بروز صراع سياسي اجتماعي عنيف و حاد بين فئات مجتمعية مختلفة ، ينبغى أن يكون هذا الصراع عنيفا و مستمرا ، لدرجة أن تنتفى معه احتمالية تلاشيه مع مرور الزمن ، و يظهر شرط ضرورة الوحدة الوطنية هذا ، بتحول الصراع إلى حرب أهلية ، و فى هذه المرحلة يتيح الانتقال الفرصة باتخاذ النخب السياسية لقرار واع بحل الصراع عن طريق التنازلات المتبادلة و إبرام تسوية ينشأ من خلالها نظام ديمقراطى..
اما المرحلة الثالثة فى نموذج روستو ، هى مرحلة التعود ، أى ملاحظة النخب السياسية و التنظيمات المجتمعية الشعبية لفعالية الآلية الديمقراطية و نجاحها ، و من ثم رسوخها كنظام دائم للحكم.
7
عندما تأخذ هذه المراحل فى الحسبان ، و إسقاطها على المشهد السودانى ، يصعب تصور حدوث تسوية سياسية بالطريقة التي يتحدث عنها دعاة التسوية المنشودة ، بل و قد تبدؤ التسوية فى نموذج روستو مستحيلة ، أن قرنا شرطها الضروري بالماثل و الواقع السودانى ، التى يغلب عليه تحديات و مشكلات عميقة بشأن الوحدة الوطنية ، هذا علاوة على تنامى ظاهرة الانتماءات الاثنية و القبلية على الانتماء الوطني ، ينضاف لذلك تنامى حالتى التشظى ، و التوهان ، التى ظلت تعانى منها الدولة السودانية منذ الاستقلال…
8
عندئذ لا يمكن أن يكون الحديث عن تسوية سياسية ممكنا فى سودان ما بعد ثورة ديسمبر ذو معنى . المتوقع أن يتم حصره فى نماذج و فرمانات الصفقات و الاتفاقيات التي تتم بين الأنظمة السياسية السلطوية و المعارضة ، لإحداث إصلاحات و ترضيات و ترقيعات تدريجية هنا و هناك فى بنية النظام السلطوي الحاكم ، و لن تكسب التنظيمات و قوى المجتمع الشعبية ذات المصلحة حدوث تغيير سياسي و اجتماعى جذري من ذلك شيئا ، سوى كسبها لهامش من الحريات التى يمكن استهلاكها بشكل واع لتحقيق الشروط الموضوعية لإحداث التغيير المطلوب لبناء مجتمع مدنى عقلانى و راشد و مستقل و تكثيف مشاركة القوى الشعبية فى مستويات السلطة المحلية..
9
خلاصة القول ، يتضح جليا أن التسريبات حول التسوية السياسية ، وأن صدقت القصدية ، بقراءة التاريخ القريب للمشهد العام لحالة الدولة السودانية و دلالات التسويات السياسية فى السودان ، يبدؤ واضحا من خلال التيارات الرافضة و التحالفات المستنكرة لاى إتفاق ثنائى ، أن الأطراف المعنية ستعيد حساباتها بشكل أعمق مما كان، و مع ذلك لا يستبعد مراقبون و محللون إنجاز التسوية بطرفها الأساس مجموعة المجلس المركزى لقوى الحرية و التغيير ، لاعتبارات عديدة أبرزها أن المجتمع الدولي مصمم على ايجاد حل للأزمة السودانية ، هذا فضلا عن ضرورة إحداث إتفاق نهائى ، ينهى الأزمة لقبل 25 أكتوبر ، فيما يرى سياسيون آخرون ، أن الموقعين على سلام جوبا ، يعتبرون طرف أساس فى ايه عملية سياسية ، و رفضهم لمزاعم التسوية ، يعتبر بمثابة شهادة وفاة لهم ، خاصة بعد تصريحات إحدى الحركات المسلحة الموقعة على سلام جوبا فى أكتوبر 2020، الرافضة إلى اتفاق ثنائى الجانب…
10
عليه ، حالما صدقت الأنباء الرائجة حول التسوية السياسية قريبا ، فإن ذلك يعنى تجديد الأزمة و أشعال نيران الفتنة ، حيث برزت أصوات محذرة من مغبة إقصاء أطراف على حساب ألاخرى ، و بالتالى اتجاه دولة السودان المورثة نحو التفكك بذات الممارسات التاريخية السابقة…
و الله يهدى الى سبل الرشاد.