الحلقة الثانية
(أيام الصمود)
قبل أحداث (اليوم الأسود) كان الصمود راجحاً عندي، فقد كنت ما قبل ذلك اليوم استمد الصمود من محادثات هاتفية يومية مع أصدقائي: (أبوعركي) الذي يساكنني الحي .. يطمئن علي وأطمئن عليه ونتبادل الأخبار.. ومحادثات أخرى مع الأخ الصديق (هاشم صديق) أسأل عن صحته وعن حقيقة الأوضاع في (بانت) واستمع إلى تحليلاته الواعية للأحداث وانتقاداته لما تبثه القنوات المحلية والأجنبية.. وأستأنس بمهاتفات مكي سنادة حينما تهدأ الاشتباكات في منطقتهم الملتهبة.. ومناشدات عثمان البدوي وعادل حربي وغيرهما لي بالخروج.. بل إننا كنا نرفه عن أنفسنا بمشاهدة الحلقات اليومية من مسلسلات (كوميديا الخبراء الاستراتيجيين).
في تلك الفترة لم أحس بأني عاطل عن العمل.. كان يومي مزدحماً بالبحث عن الدقيق لصناعة الخبز والبقول لطبخ الأدام.. وبين هذا وذاك كنت استقبل الغزاة خارج البيت حينما كانوا يكتفون بنهب البيوت الخالية من السكان..
كل هذا لم يشغلني عن العمل وفق تخصصي فقد واصلت في كتابة بعض الأبحاث التي كنت قد بدأتها قبل إشتعال نيران الحرب، بل إنني كنت قد اتفقت مع أخي (الرشيد أحمد عيسى) في مهاتفاتنا اليومية – قبل أن يغادر حينا – ومع أبوعركي على كتابة عرض مسرحي تسجيلي يصور ما يدور حولنا من أحداث حسبناها لن تدوم طويلاً.. وبالفعل شرعت في الكتابة حتى وصلت الفصل الأخير. ثم أنه كانت حتى ذلك اليوم بعض الأسر ما تزال صامدة معنا.. رجال من كل الأعمار ونساء وأطفال.. فتمكنا بتضامننا وتعاضدنا من حل بعض مشكلات البقاء على قيد الحياة من مياه وطعام.
لكل تلك الأسباب تمكنت من الصمود في بيتي ما يقارب الشهور الخمس.. ولكل تلك الأسباب لم أكن في يوم من الأيام أفكر في هجرة بيتي المتواضع حتى لو استبدلوه بقصر مشيد، فقد شهدت ورفيقتي_ رحمها الله_ كل طوبة فيه، أين وضعت وكيف وفرنا ثمنها.. ثم غادرت هي دنيانا بعد أن وضعت بصماتها على كل طوبة فيه.. ومن نعم الله عليها أن أعفاها من أن تمر بما مررنا به من أحداث جسام.. كنت بعد كل موقف عصيب أتذكرها وأقول لنفسي (كيف كان لقلبها المعطوب أن يحتمل هذا الموقف.. لو كانت بيننا؟) لأنني كنت موقناً بأنها لم تكن لتفكر بهجرة الدار مهما ادلهمت الخطوب.
إذن فالسؤال هنا هو: كيف سمحت لنفسي بالتفكير، مجرد التفكير، في الهجرة ؟
أما الإجابة فهي: إنها أحداث وحوادث تراكمت فوق بعضها البعض دفعتني دفعاً للخروج أو النزوح أو الهجرة.. أقص عليكم طرفاً منها في حلقات قادمة…
ونواصل