دور البنوك المركزية في استقرار الاقتصاد

وليد دليل

تُعتبر الحروب والنزاعات المسلحة من أكثر الأحداث المدمرة والمؤثرة على الاقتصادات الوطنية. ومن بين هذه النزاعات، تبرز الحرب السودانية كواحدة من أكثر النزاعات التي تسببت في تداعيات اقتصادية واسعة النطاق على السودان، حيث تعرض القطاع الاقتصادي لتوقف وتدهور، كما شهد الاقتصاد السوداني تباطؤًا كبيرًا في معدلات النمو، وتأثرت الصناعات والزراعة والتجارة والاستثمارات بشكل كبير. بالإضافة إلى تعرض البنية التحتية الاقتصادية في السودان لأضرار جسيمة خلال فترة الحرب، كما تسبب النزاع في انهيار قطاعات العمل، وتأثر الأمن الغذائي بشكل كبير في المناطق المتضررة، مما أدى لارتفاع أسعار الغذاء، وتراجع الوصول إلى الموارد الغذائية الأساسية.
تعرض 100 فرع من أفرع البنوك السودانية إلى النهب والسرقة والتدمير نتيجة الحرب في السودان، وبلغت نسبة الأموال المنهوبة أكثر من 38% في مصارف الخرطوم وحدها. ولم يسلم البنك المركزي السوداني من هذه العمليات التخريبية، وهو ما جعله يُعاني من نقص شديد في السيولة، فكثير من البنوك بدأت تُعاني من مشكلة إدارة ديونها، بعدما تعرضت الشركات الكبرى التي اقترضت منها مبالغ كبيرة للتدمير والنهب، وهو ما جعل البنوك السودانية تواجه مشكلة في تحصيل هذه الديون، الأمر الذي يتسبب في وقوف القطاع المصرفي السوداني على حافة الانهيار.
انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار: تتعرض العملة السودانية لضغط كبير في السوق السوداء، حيث ترتفع قيمة الدولار والعملات الأخرى بشكل مستمر أمامها، بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الصعبة التي تمر بها البلاد. ونتج عن الحرب في السودان خسارة الجنيه السوداني أكثر من 50% من قيمته منذ أبريل الماضي، حيث يتم تداول الدولار بأكثر من 1000 جنيه سوداني بعد الحرب، بالمُقارنة بـ600 جنيه قبل الحرب، وتشهد سوق الصرف الموازية تقلبات كبيرة في أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، بسبب زيادة الطلب على النقد الأجنبي لتغطية احتياجات المستوردين والمواطنين من المواد الأساسية والطاقة، وانخفاض مستوى الإنتاج المحلي والصادرات، بسبب نقص مخزونها من النقد الأجنبي وتراجع إيرادات التصدير والتحويلات. كما تتأثر عمليات المصارف بالظروف الأمنية المتدهورة في بعض المناطق، حيث تعرضت بعض فروعها للسرقة والنهب خلال فترة الاضطرابات.
ارتفاع معدل البطالة: تأثرت معدلات البطالة بشكل كبير، حيث ارتفع معدل البطالة في السودان من 32.14% في عام 2022 إلى 47.2% عام 2024، وفقًا لإحصاءات صندوق النقد الدولي. وبحسب دراسة لمعهد سياسات الأغذية الأمريكي، توقعت خسارة 5 ملايين وظيفة في السودان بسبب الحرب، مما يعني أن نصف القوة العاملة في البلاد تقريبًا فقدت وظائفها في مجالات عدة، ويرجع هذا الأمر إلى الحالات المتعددة من إغلاق الشركات والمصانع؛ بسبب تعرضها للنهب والتدمير، والتي نتج عنها تسريح عدد كبير من العمالة. كما اتجهت العديد من المؤسسات لتسريح الموظفين والعمال بشكل نهائي ومن دون تحمل عبء الحقوق المالية، فيما منحت أخرى موظفيها إجازة مفتوحة من دون رواتب، ونتج عن هذا الوضع فقدان نحو 100 ألف وظيفة من بينها فئات عمالية.
ارتفاع معدلات التضخم: سجلت معدلات التضخم في السودان أعلى مستوياتها، إذ إنها تخطت حاجز الثلاثمائة في المائة عام 2021، حيث سجلت 359.09% ولكن بدأ المعدل في الانخفاض خلال عام 2022، إذ بلغ 138.81%، ومع اندلاع الحرب في السودان، ارتفع معدل التضخم مجددًا بحسب بيانات صندوق النقد الدولي إلى 256.17%، وهو ما يعني ارتفاعها بنسبة 117.4%، وإلى الآن لم تتمكن الحكومة من الإعلان عن مستوى التضخم، مع توقعات بأن يسجل ارتفاعًا كبيرًا في ظل الزيادة الكبيرة في الأسعار.
تلعب البنوك المركزية دورًا حاسمًا في استقرار الاقتصاد، حيث تُعتبر الجهة المسؤولة عن وضع وتنفيذ السياسات النقدية في الدولة. تهدف هذه السياسات إلى تحقيق أهداف اقتصادية رئيسية مثل التحكم في التضخم، تعزيز النمو الاقتصادي، والحفاظ على استقرار النظام المالي. من خلال التحكم في العرض النقدي وأسعار الفائدة، تتمكن البنوك المركزية من توجيه الاقتصاد نحو تحقيق هذه الأهداف.

السيطرة على التضخم

أحد الأدوار الأساسية للبنك المركزي هو السيطرة على التضخم، الذي يُعتبر من أبرز المخاطر التي تواجه الاستقرار الاقتصادي. التضخم المفرط يمكن أن يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للعملة، مما يُضعف الاقتصاد ويضر بالأسر والشركات. تقوم البنوك المركزية بالتحكم في مستويات التضخم من خلال السياسات النقدية، مثل تعديل أسعار الفائدة. عندما يرتفع التضخم بشكل مفرط، يمكن للبنك المركزي رفع أسعار الفائدة، مما يقلل من الطلب على القروض ويخفض الإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي يساهم في خفض التضخم.

تعزيز النمو الاقتصادي

بالإضافة إلى دورها في السيطرة على التضخم، تسعى البنوك المركزية إلى تعزيز النمو الاقتصادي من خلال السياسات النقدية التوسعية. في أوقات الركود الاقتصادي أو تباطؤ النمو، قد تقوم البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة لتحفيز الإنفاق والاستثمار. كما قد تلجأ إلى شراء الأصول المالية من الأسواق (ما يُعرف بالتيسير الكمي) لضخ سيولة إضافية في الاقتصاد. هذه الإجراءات تهدف إلى تعزيز النشاط الاقتصادي وزيادة فرص العمل، مما يدفع الاقتصاد نحو النمو المستدام.

الحفاظ على الاستقرار المالي

الاستقرار المالي يُعتبر ركيزة أساسية لدور البنوك المركزية. يشمل هذا الجانب مراقبة النظام المالي بأكمله لضمان عدم وجود مخاطر كبيرة تهدد استقراره. تعمل البنوك المركزية على توفير السيولة اللازمة للبنوك التجارية خلال الأزمات المالية لتجنب حدوث انهيارات مالية قد تؤدي إلى ركود اقتصادي شامل. بالإضافة إلى ذلك، تقوم البنوك المركزية بوضع لوائح وتنظيمات تهدف إلى تقليل المخاطر المالية، مثل متطلبات الاحتياطي النقدي وقواعد رأس المال التي يجب على البنوك التجارية الالتزام بها.

التدخل في أسواق العملات

تلعب البنوك المركزية أيضًا دورًا في استقرار العملة الوطنية. قد تتدخل في سوق العملات الأجنبية لشراء أو بيع العملة المحلية بهدف تحقيق استقرار سعر الصرف. هذا الاستقرار ضروري لتجنب تقلبات حادة في أسعار الصرف، والتي يمكن أن تؤثر سلبًا على التجارة الدولية والاستثمار.

التحديات التي تواجه البنوك المركزية

على الرغم من الدور الهام الذي تقوم به البنوك المركزية، فإنها تواجه تحديات كبيرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. أحد هذه التحديات هو تحقيق التوازن بين مكافحة التضخم ودعم النمو الاقتصادي، حيث أن الأدوات المستخدمة لتحقيق أحد هذه الأهداف قد تؤدي إلى تأثيرات سلبية على الآخر. كما أن العولمة الاقتصادية وزيادة الترابط بين الأسواق المالية العالمية قد تحد من قدرة البنوك المركزية على التحكم الكامل في الاقتصاد الوطني.

الخلاصة

في النهاية، تُعتبر البنوك المركزية أحد الأعمدة الرئيسية في استقرار الاقتصاد. من خلال السياسات النقدية التي تضعها، تسعى هذه المؤسسات إلى تحقيق توازن دقيق بين السيطرة على التضخم، تعزيز النمو الاقتصادي، والحفاظ على الاستقرار المالي. وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها، يبقى دور البنوك المركزية ضروريًا في توجيه الاقتصاد نحو الاستقرار والازدهار.

Exit mobile version