رأي

دموع الشانزيليزية

 

علي عسكوري 

*يحرص زوار مدينة باريس على زيارة شارع الشانزيليزية أشهر شوارع الأرض للتسوق في متاجره الفاخرة وتلمس شيئا من عبق تاريخ الانتصارات والهزائم والثورة الفرنسية الخ… ذلك التاريخ الدموي الذي شكل تاريخ المدينة الأثمة، التى تسمى في تجاهل للتاريخ (مدينة النور).

*نعلم أن باريس – أحد أشهر عواصم العالم- بنت ثرائها وترفها من دماء وعظام ودموع ومآسي الشعوب التي استعمرها الفرنسيون لعقود طويلة.

*رغم أن الثورة الفرنسية الغت الرق، إلا أن نابليون بونابرت في احلامه الامبراطورية أرسل جيشا عرمرم بقيادة الضابط تشارلس ليكرك – زوج شقيقته الصغري الجميلة باولين بونابرت – إلى جزيرة سانت دومينجو (هايتي حاليا) في عام 1801 لاعادة استعمارها والحاقها مرة اخري بالامبراطورية بعد ان ثار سكانها الافارقة وهزموا الفرنسيين وانهوا الاسترقاق واعلنوا استقلال جزيرتهم, رغم أن حملة الاخضاع التي قادها تشارلس اتبعت سياسة الابادة مع السكان الافارقة فقتلت الالاف منهم، إلا أن الافارقة انتصروا علية في نهاية الامر وقتلوه، عندها قصت باولين شعرها الاشقر الجميل ووضعته في التابوت ليدفن معه حزنا عليه, لاحقا نقلت رفات زوجها ومالك قلبها لتدفن في فرنسا, لكن بعد كل ذلك الحب المعلن- و كعادة النساء- ما كادت باولين تطأ ارض فرنسا حتى تزوجت (كامليو دوقيز) الامير السادس لمنطقة (سلومونا- ايطاليا)، الذي هرب بدوره وتركها وحيدة في فرنسا لتواجه مصيرها بعد هزيمة نابليون في معركة (ووترلو) 1815

*بمقتل تشارلس وحزن باولين اندحر الاستعمار الفرنسي من هايتي التي نالت استقلالها العام 1804م

*كان ذلك درسا مؤلما للامبراطورية الفرنسية، لكنها لم تع الدرس وعادت لتكرر مجازرها بعد ربع قرن في الجزائر العام 1830، وتوسعت ليشمل استعمارها اغلب دول غرب افريقيا ومناطق اخرى من القارة(20 دولة) حيث سعت بالقوة القاهرة ل(فرنستها) فيما عرف في التاريخ بعملية الدمج assimilation (أي تحويل الافارقة الى فرنسيين ثقافيا).

*وقعت مجتمعات شمال غرب افريقيا وغربها ضحية لبشاعة الاستعمارالفرنسي ووحشيته, فقبل الاستعمار المباشر انغمس الفرنسيون في تجارة الرق من غرب افريقيا الى الاراضي الجديدة وتاجروا في ملايين الافارقة دون رحمة, ثم بعد ان نجحت الحملات المطالبة بوقف تجارة الرق لبشاعتها وانحطاطها ومنافاتها لادمية البشر، جاؤوا بجيوشهم الجرارة لاستعمار ذات الشعوب واخضاعها وفرنستها ونهب مواردها.

*منذ حوالى العام 1895 احتلت فرنسا غالب شعوب غرب افريقيا وانهمكت في اضطهادها ونهبها بلا هوادة… وللاسف ما يزال النهب مستمرا.

*على دماء الافارقة واشلائهم ونهب تلك الموارد المنهوبة إزدهرت باريس (مدينة النور) وانتعش شارع الشانزيليزية وفاض بمحلات العطور الراقية وافخر بيوتات الموضة والترف الرأسمالي.

 

*وكما يذكرنا التاريخ دوما – لكل بداية نهاية- في العام الماضي نهض الافارقة في صراعهم المستمر لحريتهم في محاولة جديدة مستميتة لطرد الاستعمار الفرنسي من بلادهم باخراج الجيش الفرنسي الذى كان يذكرهم صباح مساء بالتاريخ الدموي لفرنسا ضد اسلافهم.

*حاليا يشهد العالم آخر محاولات الافارقة لتحرير بلادهم وواضح انهم نجحوا هذه المرة.

*شهد العام 2024 طرد قوات الاستعمار الفرنسي من السنغال وساحل العاج (سيكتمل بنهاية العام في الدولتين)، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، مالي، وتبقى لفرنسا فقط وجود محدود في دولة الغابون وقاعدة في (دجيبوتي).

*وهكذا نشاهد حاليا نهاية واحدة من اظلم حقب التاريخ استمرت حوالى 130 عاما، قتل فيها الفرنسيون ملايين الافارقة ونهبوا خيرات الشعوب وبنوا (عاصمة النور) وازدهر الشانزيليزيه بكل ترفه وبهائه.

*هل إنتهى الاستعمار الفرنسي لتلك الشعوب كلية؟ للأسف.. لا, فما تزال فرنسا تسيطر على اقتصاد تلك الدول بصورة شبه تامة.

*ما يزال يتوجب على تلك الدول حسب ما فرض عليها اتفاق ظالم عام 1945، أن تودع 50% من عائداتها بالعملات الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، يضاف لذلك ايداع 20% اخرى من عائدتها لمقابلة التزاماتها القائمة, هذا يعني أن تلك الدول تحصل على 30% من عائداتها بالعملات الصعبة، وهو ما أضر ضررا بليغا بحقها في تنمية شعوبها، وعطل نهضتها لحوالي ثمانية عقود.

*إن التخلص من ذلك الاتفاق (اتفاق عملة ال CFA) هو المعركة القادمة وهي معركة أصعب من طرد الجيش، فبدون سيطرة تلك الدول على فوائضها وادارتها يصبح الحديث عن الاستقلال ضرب من الهذيان.

*كان اكبر المعضلات التي واجهها الفرنسيون في مجتماعات غرب افريقيا هي فشل محاولتهم القسرية لاخراج المسلمين عن دينهم وفرنستهم, ورغم القهر والاضطهاد الذي واجهه المسلمون على ايديهم تمسك المسلمون بدينهم واعتصموا به (السنغال مثالا), ما يؤسف له هو ضعف التوثيق من قبل مسلمى المشرق وشمال افريقيا لنضالات المسلمين في غرب افريقيا ضد الفرنسيين، ولا يكاد الباحث يعثر على كتاب او توثيق ذى قيمة تاريخية لنضالات تلك الشعوب ومكابدتها تحت نير الفرنسيين. لكن جهلنا بذلك التاريخ لا يقلل منه على الاطلاق. لقد ناضلت شعوب غرب افريقيا اضعافا مضاعفة مقارنة بالشعوب الاخرى تمسكا بعقيدتها ودفاعا عن حريتها, فقد تواصل نضالها من القرن الخامس عشر ضد تجارة الرق واستمر ضد الاستعمار المباشر وتبقت له عقبة اخيرها لإنهاء السيطرة الاقتصادية على مواردهم, متى ما تحقق ذلك، سنرى دموع الشانزيليزية على خد (مدينة النور).

*من عبر التاريخ ان الحضارات تنهض وتبيد وتحل محلها اخرها, تنطبق سنن التاريخ وارادة الخالق على الحضارة الغربية كسابقاتها لقد ارتكب ما يسمى بالحضارة الغربية جرائم غير مسبوقة في تاريخ الانسانية ولا تكاد بقعة في الارض تخلو من الدماء التى اراقتها وضحاياها من حروبها في شعوب العالم تجاوزوا مئات الملايين.

*والآن دخلت الحضارة الغربية منذ اكثر من خمسة عقود في منحدر الانحطاط الاخلاقي وتآكلت عندها القيم الضابطة للسلوك الإنساني وفقدت بوصلتها الاخلاقية, وكما دخلت من غرب افريقيا لتجارة الرق هاهى تخرج منه منكسرة تلملم بقايا جنودها المندحرين.

*بعد قرن ونيف ستغرق دموع الشانزيليزيه شوارع المدينة الاثمة، وسيؤول الشارع والمدينة الآثمة لامم أخرى طال اضطهادها.

*ينسب لى (لوكس نوتار) نائب حاكم القسطنطينية قوله:( إننى أفضل أن أرى عمائم الاتراك في القسطنطينية على أن أرى قلنسوات رجال الدين اللاتينين).

*إن من يقراء تاريخ أوروبا سيعلم أن عمائم المسلمين قادمة لتمسح دموع الشانزيليزية ليتوضأ فيه الناس بدلا من شراب الجعة! وما نشاهده الآن في غرب افريقيا هو لصفحات مظلمة من تاريخ دموى آن له ان يذهب

هذه الأرض لنا

نقلا عن موقع “أصداء سودانية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى