بقلم: عبدالعزيز يعقوب
ساقتني الأقدار ذات يومٍ إلى بيتٍ من بيوت الصفاء والعراقة، بيتٍ ما إن تدخله حتى تشعر بأنك تدخل فصلًا من فصول الذاكرة السودانية الحيّة. كان ذلك منزل الراحل المقيم السيد إبراهيم منعم منصور، وزير المالية الأسبق في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري، وقد قصدناه بمعية الدكتور المحبوب عبدالسلام للمعايدة بعد خروجه من المستشفى إثر كسرٍ ألمّ به. كان اللقاء بعد الثورة التي أطاحت بنظام الإنقاذ، حين كانت البلاد تتلمّس طريقها وسط رمادٍ كثيف من الأمل والخذلان.
في صالون منزله الأنيق الذي يجمع بين التراث “عنقريب انيق في وسط الصالون” والحداثة ” صالون افرتجي “، جلسنا بين عبق الكتب وصورٍ قديمة تروي سيرة أجيالٍ من الحكماء ورجال الدولة. استقبلنا الدكتور إبراهيم بوجهٍ يفيض بالوقار، وابتسامةٍ حانيةٍ تُخفي خلفها حزنه على وطنٍ أنهكته الانقسامات. تحدّث بصوتٍ هادئ، يحمل عمق التجربة وصدق الرؤية، فقال كمن يقرأ الغيب:
“غياب المرحومين محمد إبراهيم نقد والدكتور حسن الترابي ترك فراغًا كبيرًا في الساحة السياسية، فالرجلان، رغم اختلافهما، كانا عمليين ويملكان القدرة على إنتاج الأفكار والحلول الواقعية.”
ثم أطرق قليلًا قبل أن يقول:
“لقد تفاجأت أن قوى الثورة لم تستطع أن تأتي بحكومة في غضون أسبوع بعد طلب الم لس السيادي، وهذا دليل على عدم الجاهزية، وعلى أن الصراع الداخلي سيجعل من الفترة الانتقالية ساحةً لصراعٍ غير راشد… وربما طريقًا إلى الفشل.”
وما إن انتهى حديثه حتى دلف بعدنا إلى ذات الصالون اللواء/ معاش التجاني آدم الطاهر، أحد قيادات المجلس العسكري لنظام الإنقاذ، فكان المشهد بحد ذاته لوحةً تختصر تاريخ السودان بين العهود، وكأن الأقدار جمعت على مقاعد المكان رموزًا من مراحلٍ متباعدة، ليتبادلا الصمت والحكمة في حضرة رجلٍ شهد على كليهما دون ضغينةٍ أو خصومة.
كانت تلك اللحظات مرآةً للوطن ذاته؛ وطنٌ تتجاور فيه المتناقضات، وتبقى الحكمة فيه نادرة، لكنها حين تُقال، تظل حيّة كنبضٍ لا يموت. خرجتُ من بيت الرجل وأنا أوقن أن بعض الرجال، حين يتحدثون، فإنهم لا يصفون الحاضر فحسب، بل يرسمون مصير وطنٍ بأكمله.
وقد انطفأ ذلك النور برحيله قبل عامين، تاركًا خلفه فراغًا لا يُملأ، وذاكرةً تمشي على قدمين في وجدان كل من عرفه أو سمع عنه.
واليوم، جاءنا النبأ الأليم بوفاة شقيقه الناظر عبدالقادر منعم منصور، ناظر عموم قبائل دار حَمَر، بعد صراعٍ طويل مع المرض في مدينة النهود التي أحبّها أكثر من راحته، وبقي فيها رغم تدهور الخدمات الصحية وقسوة الأيام.
كان الراحل الكبير رمزًا من رموز الصبر والانتماء، زعيمًا تقليديًا بمفهومٍ حديث، يعرف قيمة الأرض والناس، ويؤمن أن القيادة ليست سلطةً بل خدمة ومسؤولية. رفض مغادرة مدينته في أحلك الظروف، واختار أن يبقى بين قومه، يشاركهم المحن ويقاسمهم الشدة، حتى لقي وجه ربّه راضيًا مرضيًا.
برحيله، فقدت دار حَمَر أحد أعمدتها الراسخة، وفقد السودان رجلًا من رجال الحكمة الأصيلة الذين توازن فيهم النبل والشجاعة، والهدوء والصلابة. كان صمته أبلغ من الخطب، ومواقفه مرآةً لقيمٍ عميقةٍ تندر في زمانٍ مضطرب.
لقد رحل آل منعم منصور في زمنٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى أمثالهم: إلى رجاحة العقل، وصفاء النية، ونُبل الانتماء. رحل الدكتور إبراهيم ومعه بصيرة رجل الدولة الذي يرى أبعد من اللحظة، ورحل الناظر عبدالقادر ومعه قلب القائد الذي لا يساوم على أهله ولا يتخلى عن أرضه.
سلامٌ عليهما في دار البقاء، وسلامٌ على الأسرة الكريمة التي أنجبت رجالًا حملوا الوطن في قلوبهم ورحلوا بصمتٍ نبيل.
وسلامٌ على دار حَمَر التي ودّعت رموزها كما تودّع الأم أبناءها الكبار، بدموعٍ لا تجف، وبفخرٍ لا يزول.
لقد فقد الوطن رجالًا من معدنٍ نادر، ولكن أثرهم باقٍ في الوجدان، وصورتهم لا تغيب عن ذاكرة السودان…
فبعض الرحيل لا يُمحى، لأنه محفورٌ في ضمير الأرض، وفي حنين الناس إلى زمنٍ كان فيه الكبارُ سندًا للوطن، لا عبئًا عليه.
