حسين خوجلي
هنالك عشرات المعارك المقدسة التي دخلت من بوابة الخلود للحضارات والمدنيات المستعصمة بقيم الحق والفضيلة القائمة تطول، لكن ظل أشهرها تبوك والقادسية وفتح القسطنطينية وذات الصواري وعين جالوت ومن بعد شيكان وكرري وخط بارليف ومعركة اكتوبر ومعركة كابول وأخيراً غزة وما أدراك ما غزة وعلى الطريق القادمات.
ولأن كتابة التاريخ والتوثيق في أفريقيا والعالم العربي تتعثر بقيد الشفاهية والنسيان والمؤامرة فقد فات علينا نقش الكثير من المعارك السودانية الوضيئة على صخرة التاريخ القديم والماثل، وإن جاز لنا في هذه الأيام أن نفخر ونعلن للدنا شرفاً، تكفينا عزا معركة المدرعات بالخرطوم ومعركة خميس الفاشر بدارفور وعدها من مفاخر الانتصارات التي يتوجب تعليقها على أعناق الفيوضات القدسية والامجاد السنية في الحضارة الانسانية المعاصرة.
فمن كان يصدق أن مدينة عريقة وأسيرة ومحاصرة بالطبيعة والأعداء مثل الفاشر يمكن أن تصمد لأكثر من مائة معركة في مناخ عسير لا نهر فيه ولا بحيرة ولا شلال ماء ولا تشوين غذاء ولا معين ولا نصير إلا من أبطال بلا زاد. الشباب على الثغور والنساء على مهام الدواء والقوت وتضميد الجراح، والأطفال يحتضنون ألواح القرآن بحبٍ ودمعٍ واعتزاز والشيوخ يعمرون المساجد بأصوات كأزيز النحل ودعاء لا ينقطع، وأكفٍ لا ترهقها وطأة الهزيع الثاني.
من كان يصدق أن هذه المدينة الجريحة الباسلة التي كست الكعبة المشرفة زماناً وكست الزمان الإسلامي العاري بثياب الصمود حين وقفت وحدها تقاتل من أجل الخلافة الاسلامية حتى قُتل سلطانها دينار شهيداً أمام جحافل الصليبية الصدئة والاستعمار العقيم.
إن صمود الفاشر الأسطوري يؤكد بأن سودان الأمجاد والوحدة والتوحيد قادم ويبرهن بالأدلة القاطعات انتصار هذه الأمة الشاهدة ولو بعد حين.
إن الفاشر هنا تذكرنا بمدينة ومعركة (الحدث الحمراء) وهي مدينة طريدة دهرٍ ما بين أرض الروم وأرض المسلمين، وقد سميت بالحمراء لكثرة ما أريق حولها من دماء، وقد خاض فيها الأمير المسلم المجاهد سيف الدولة الحمداني عشرات المعارك حتى ردها إلى بقاع الاسلام الطاهرة، مثلما يفعل اليوم قادة الجيش السوداني والمشتركة والمستنفرين في معركة إعادة دارفور الكبرى إلى حضن السودان الكبير. وتبقى في الذاكرة أبداً أبيات احمد بن الحسيين حارة في قلوب الرجال والنساء وهو يوثق لهذه المعركة بقصيدته وابياته الشهيرة:
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها
وَتَعلَمُ أَيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ
سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولِهِ
فَلَمّا دَنا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ
بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ القَنا
وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ
وَكانَ بِها مِثلُ الجُنونِ فَأَصبَحَت
وَمِن جُثَثِ القَتلى عَلَيها تَمائِمُ
طَريدَةُ دَهرٍ ساقَها فَرَدَدتَها
عَلى الدينِ بِالخَطِّيِّ وَالدَهرُ راغِمُ
تُفيتُ اللَيالي كُلَّ شَيءٍ أَخَذتَهُ
وَهُنَّ لِما يَأخُذنَ مِنكَ غَوارِمُ
إِذا كانَ ما تَنويهِ فِعلاً مُضارِعاً
مَضى قَبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ
وقد آلينا على أنفسنا وكما اعتدنا في الأيام السالفات أن نسطر بالعامية الفصيحة الاحتفاء بانتصارات المدن السودانية وسحقها للغزاة البغاة الذين جعلوا بين أيدي معاركهم السرقة والاغتصاب والحريق والدمار، وهي لعمري جرائم ومثالب لم تعرفها مناقب ولا أعراق السودانيين ولا بطونهم ولا قبائلهم.
الفاشر الكبير فاديهو جيشو العاتي
وفرسان الزغاوة والفور مع المسلاتي
اسراب الذئاب الكان تصول يوماتي
باكر تندحر تجري وترِّح وتهاتي