خطل الجنجويد والقحَّاطة ودولة الوهم

بقلم: خالد محمد أحمد

في زمنٍ اختلَّت فيه القيم والمعايير وانقلبت رأسًا على عقب، يتوهَّم الجنجويد أن بإمكانهم اغتصاب أرضٍ ليست لهم وإقامة دولةٍ على أنقاض شعوبها الأصليَّة في القرن الحادي والعشرين

مأساة هؤلاء الغارقين في وهمهم أنهم لا يدركون أن القوة الغاشمة لا تُنبِت شرعيةً، وأن إراقة الدماء لا تصنع وطنًا.

يتوهَّم هؤلاء أن الفاشر والسودان عمومًا مجرَّد غنيمةٍ في صحراء بلا أصحاب، وأن الذاكرة تُمحَى بقرقعة السلاح.

مصيبتهم أنهم لا يدركون أنه حتى الأنظمة الراسخة بجيوشها وأجهزتها الشرطيَّة والأمنيَّة، كمايو والإنقاذ، قد ذابت كالبسكويت أمام الهبَّات الشعبيَّة؛ فكيف لميليشيا مغتصبةٍ بلا قضيَّة أن تتوهَّم الخلود فوق أرضٍ تلفظها؟

ما يفعله الجنجويد اليوم ليس مجرَّد حربٍ على البشر، بل على الحقِّ في المكان والكرامة والذاكرة. يقتحمون المدن كما تُقتَحم الذاكرة بالعنف. يطردون أهلها ظنًّا أن المكان سيصمت، لكنهم لا يدركون أن الأرض تعرف أصحابها، وأنهم بذلك يبذرون بذور مقاومتهم القادمة، ويخلقون عوامل فناء “دولتهم” حتى قبل أن تولَد. يفوت عليهم أن كلَّ ظلمٍ مؤجَّلٍ يلِد ثأرًا مؤبَّدًا، وأن العدالة آتيةٌ لا ريب ولو بعد حين.

ولئن التمسنا لِمَن جُبِل على الجهل وتربَّى على الغزو والسلب عذرًا، فبأيِّ وجهٍ يتذرَّع مَن يلبسون عباءة السياسة بينما يباركون الغزو والوصاية الدوليَّة. لا يختلف هؤلاء في الجوهر عن الجلاَّدين سوى بأنهم يرتدون أربطة عنقٍ ناعمة، ويخفون الاستبداد وراء لافتات المدنيَّة. القول في جرم هذه العصبة التي أوردتنا هذه المهالك وأوصلتنا إلى هذا الدرك السحيق لا ينتهي ويحتاج لسِفرٍ كبير يُبسَط فيه المقال. الكذب والتدليس والإنكار والاستخفاف بالشعب هي أمورٌ لا تحيد عنها شُّلة الأنس هذه قيد أنملة، وأسلوبهم الأخرق لمعالجة الأمور لا يتبدَّل. حتى هذه اللحظة، ما زالوا يراوغون ويظنُّون أن بوسعهم خداع الشعب والإفلات من غضبه، ولات حين مناص؛ فها هم بكلِّ غباء الدنيا يسعون إلى حتفهم بظلفهم بتحالفهم مع القتلة، وما دروا أنهم بذلك يلفُّون الحبل حول أعناقهم. لم يدَّخروا من أمسِهم ليومهم، ولم يحسِنوا السياسة والتدبير. غرَّهم طول الأمل وإعجابهم بأنفسهم واستعلاؤهم على الناس. أهدروا برعونة فرصةً عظيمة واتتهم للحكم ولم يعضُّوا عليها بالنواجذ. وقد فات أوان الاستدراك، وتسرَّبت الأمور من بين أيديهم، فأخذوا يتخبَّطون يمنةً ويسرة، ولم يعُد لديهم ما يسكِّنون به غضب الشعب، الذي أدرك أن هذه الطغمة “بشكلها وأفكارها الحاليَّة” قد أفلست سياسيًّا وأخلاقيًّا.

كلا الفريقين يحتقر الشعب، ويستهين بإرادته، ويظنُّ أن الحُكم يُنتزَع ولا يُمنَح، وأن الشرعيَّة يمكن أن تُستورد كما تُستورد الذخائر؛ لكنهما سيصطدمان بحقيقةٍ لا مفرَّ منها، وهي أن الوطن لا يُبْنَى بالغنيمة، بل بالرضا العام، وأن الكرامة إذا دِيستْ في الفاشر، فستنهض لها قلوبٌ في كلِّ السودان.

إن شعبًا صبر على أذى الجنجويد والقحَّاطة ثلاث سنوات حسومًا عجافًا لجديرٌ بأن يُكْتَب في الخالدين!

Exit mobile version