رأي

خصومات تبتلع العقل… من سجالات أمين وآراء المحبوب إلى مأزق التخوين في السياسة السودانية

عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا

في قلب الحياة السياسية، تتعرض الأحزاب السودانية لاختبار دائم يكشف قدرتها على التمييز بين القوة الحقيقية والقوة الوهمية. فالقوة الحقيقية تنبع من الأفكار الأصيلة، ومن المبادرات التي تسعى إلى ملامسة هموم المواطنين وتحسين واقعهم نحو التنمية و الرفاهية، ومن القدرة على جمع المختلفين حول مشروع وطني مشترك. أما القوة الوهمية، فتقوم على صناعة التخوين والتخويف، وتهيئة الهواجس، وابتكار عدو افتراضي تُشدّ الجماهير نحوه. وحين تنتصر هذه القوة الخادعة، تتحول السياسة إلى ساحة خصومات شخصية، كما في سجالات د. أمين حسن عمر حول آراء د. المحبوب عبدالسلام، حيث يصبح الهجوم بديلاً عن الحوار الجاد، وتغدو الكلمة سلاحًا فظًّا بدل أن نقول للناس قولا لينًا كما أوصى الله أنبياءه موسى وهارون، وسيلة للهداية والإرشاد.

ومع سيادة هذا النهج، تتوقف المبادرات، وتذبل الأفكار، ويصبح الإنتاج الفكري مجرد صدى لشعارات تعيد إنتاج ذاتها بلا أثر. بدلاً من البناء المشترك، تتفشى لغة التخوين كأداة لضبط الصف، ويحل التخويف محل النقد، ويستبدل النقاش العقلاني بمطاردة الخصوم. هكذا يولد فراغ فكري تتراجع فيه قيم الإبداع، ويتقدم فيه الضجيج على الفعل، والهوى على الحكمة.

إن جوهر السياسة، في أصلها النبيل، هو صناعة المستقبل عبر التفكير والحوار والإبداع. والحزب الذي يعي هذا الجوهر هو الذي يفتح أبوابه لكل صوت حر، ويحسن إدارة الاختلاف، ويجعل من تنوع الرؤى ثروة لا تهديدًا. غير أن التخوين، متى تمدد، يحول هذا الاختلاف الطبيعي إلى صراع مدمر، ويحوّل الجدل الصحي إلى خصومة شخصية، ويعيد ضبط الميدان على معادلة “معي أو ضدّي”. بذلك، لا يعود للتنوع فرصة للتطور، بل يصبح عبئًا يُحاصر ويُقمع.

إن التحالفات القائمة على القضايا الوطنية الكبرى تمثل الطريق الأجدى لبناء مجتمع مدني فاعل، لكن التخوين غالبًا ما ينسف هذا الطريق قبل أن يبدأ. فحين تجتمع القوى السياسية على حماية الحريات، وصون حقوق المواطنين، وتوسيع قاعدة المشاركة، ووضع السودان أولاً، يُولد حيز جديد يعزز المواطنة ويُنمي الوعي. إلا أن الخطاب القائم على التخوين و التخويف يعيد الناس إلى مربعات الانقسام القديمة، ويُغرق الجهد العام في معارك جانبية لا طائل منها في ظل الواقع المأزوم.

القضايا المحورية—من حماية البيئة إلى تطوير التعليم قبل الجامعي وقضايا الصحة العامة والأعمار —كان يمكن أن تكون مساحات تعاون بين الأحزاب والفاعلين في المجتمع. لكنها تصبح رهينة حسابات التهديد والتخوين، وتضيع وسط معارك تتضخم فيها الأنا الحزبية على حساب المصلحة العامة. الأحزاب التي تنشغل بخصومة الأشخاص تفقد تدريجيًا بريقها وقدرتها على صناعة سياسات، وتتحصن بالشعارات العدمية بدل الرؤى، وبالتهديد بدل الحشد الواعي للوعي الجمعي.
ولا ينهض أي مجتمع إذا أصبح التخوين بديلاً للحوار. حين تتحول الفكرة إلى تهمة، والرأي إلى موضع شك، يفقد الناس شجاعتهم على التفكير ضمن إطار الحزب الواحد، ويختنق المجال العام، وتتحول الساحات السياسية إلى حلبة صراع تحكمها العصبيات لا الحجج. المجتمعات المتقدمة هي التي تتيح للنقد أن يعمل بلا خوف، وتحمي الفكر من سطوة الوصاية، وتجعل قرارها نابعًا من وعي الناس، لا من تهديدات الصراع على النفوذ.

السياسة القائمة على الخصومة تحوّل الصراع إلى أداة هدم، أما السياسة القائمة على القضية فتحوّل المنافسة إلى بناء. الحزب الصاعد هو الذي لا ينتظر “عدوًا” لتوحيد صفوفه، بل يجمع المجتمع حول أهداف واضحة، هو الحزب القادر على تحويل السلطة من غاية إلى وسيلة، ومن صراع إلى مشروع. النجاح في السياسة لا يُقاس بعدد الخصوم، بل بعمق الأفكار، وبمدى قدرتها على مخاطبة المجتمع وتفاعل الناس معها.

وأخيرًا، في مجتمع يعترف بتعدديته وتنوعه، يصبح الاختلاف رافعة لا قيدًا، ويُستثمر في إنتاج مبادرات وسياسات تعكس تنوع التجارب الإنسانية. عندها فقط تُبنى العدالة، وتتسع المواطنة، ويُصنع فضاء عام يضمن الحرية ويحمي الإبداع، ويتيح لكل فرد أن يساهم في نهضة حقيقية لا تنبت من الخوف، بل من الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى