إبراهيم عثمان
خالد عمر يوسف: (ما فضل كذبة واحدة حول الحرب دي ما سقطت، لأنها هي حقيقةً حرب الأكاذيب، الناس الادعوا هي حرب كرامة دي الحرب اللي فعلاً مرمطت كرامة السودانيين، بنتكلم عن ١٤ مليون سوداني دُفِعوا خارچ ديارهم، قاعدين مشردين في مناطق اللجوء والنزوح، وحال كل أسرة في السودان الآن يغني عن السؤال، بالتالي هي حرب بالفعل مرغت كرامة السودانيين بالأرض، والناس البتكلموا عن إنها حرب السيادة والدولة، حقيقة نحن الآن بنشهد تحلل الحاجتين نشهد تحلل الدولة وفقدانها لسيادتها، السودان الآن هو نهب لكل أشكال التدخل الخارجي من كل الجوانب، وما فيهو سيادة أصلاً. الناس يقولوا السودان حينقسم، الحقيقة السودان انقسم وانتهى وماشي من الانقسام للتفتت)
لا يتوقف قادة “تقدم/صمود/ تأسيس” من تقديم إثباتات إضافية على صحة الحقيقة التي تقول: إن الدفاع عن الميليشيا وراعيها الأجنبي والهجوم على المتصدين لعدوانهم يستحيل أن يقوم على معايير صحيحة وحجج حقيقية، ولا حتى على أشباه معايير وأشباه حجج، بل على “قلب المعايير” لتقسر الحجج المتوفرة، وهي نتائج العدوان، على الشهادة للميليشيا ولراعيها ضد المتصدين لعدوانهما!
١. لم يكن مستغرباً أن يتجنب خالد عمر ذِكر أي أكذوبة من أكاذيب الميليشيا، على كثرتها وتنوعها، ويقول إنها قد سقطت، فالإطار المرجعي الذي يحكم تناوله لقضايا الحرب هو العداوة الشديدة للمتصدين لعدوان الميليشيا وراعيها الإقليمي، وتحميلهم وزر الحرب ووزر أكاذيبها! ٢. استخدم خالد عمر كل ما يجعلها حرب كرامة من الدرجة الأولى ليستدل به على العكس: أي استخدم ما قامت به الميليشيا من التشريد، واحتلال البيوت، والتعديات على كرامة المواطنين، وجعلهم في “حالة تغني عن السؤال”، وما تقوم به من تمكين راعيها من المساس العميق بالسيادة والعمل للتقسيم. لم يكن هذا مستغرباً من خالد إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها جرائم الميليشيا كحجة ضد المتصدين لها! ٣. في كل ما ذكره مما يمس الكرامة كان “لتقدم” إسهام : فهي التي لا ترى في تشريد الناس واحتلال بيوتهم ونهبهم وتحقيرهم مساساً بكرامتهم يستحق التصدي له، وهي التي تحرم على المواطنين أي شكل من أشكال “مقاومة” العدوان والمساس بالكرامة، وهي التي دافعت عن الميليشيا في قضية البيوت، وهي التي تدافع عن الدولة المتدخلة في السيادة، بل وهي التي تطلب من دول غيرها التدخل وعدم الالتفات لوجود سيادة، وهي التي انتدبت كل حركاتها المسلحة وبعض أحزابها لحكومة التقسيم، مانحةً إياهم شهادة حسن سير وسلوك تتصدرها الشهادة “بوحدويتهم”! ٤. لا يمكن لاستخدامه جرائم الميليشيا كحجة ضد وصف التصدي لها بالكرامة أن يؤدي أي معنى إلا إذا كان غرضه هو “الشماتة”. بمعنى أن يقول للناس: “قلتم إن تصديكم للميليشيا وداعمها الأجنبي هو “كرامة”، لكن الحقيقة أن الميليشيا وراعيها تمكنا من مرمطة الكرامة بالتراب”. فإذا اعترف بأن هذا هو ما أراد قوله يمكن حينها مناقشته وفق نوع المناقشة التي تناسب اعترافه! ٥. ذكر خالد عمر نفسه في مقابلة مع قناة الجزيرة ما يُفترَض أن فيه اعتراف بمساس الميليشيا بكرامة السودانيين، وبكرامته الشخصية: (كلنا كشعب سوداني ظُلِمنا، أنا من الجزيرة، قريتي اقتحمها الدعم السريع، وارتكب فيها جرائم، أمي وأبوي وأخواني وأهلي الآن نازحين ولاجئين، في دول مختلفة مشتتين، بيتي دخلوه ونهبوه وسرقوه، يعني أنا فرد من أفراد الشعب السوداني، تعرضت لكل ما تعرض له الشعب السوداني). ٦. وعن التعامل مع هذا “الظلم الجماعي” للشعب والمساس بكرامته قال ما يثبت أنه متسامح مع ما مس كرامته، وما مس كرامة كل السودانيين، ثم قام بتحويل “الحق في الكرامة” إلى “غبائن شخصية” مذمومة، قال: (في واحد من خيارين يعني، عندنا مثل في السودان بقول “الفش غبينتو خرب مدينتو”، هل نحول غبائننا الشخصية لحالة غضب عمياء تجعلنا نقتل بعضنا البعض ونشتم بعضنا البعض، ونمارس العنف ضد بعضنا البعض، أم نحول هذه الغبائن لشيء إيجابي يجعل مصادر هذه الغبائن تُجفف وتنتهي مرة واحدة يعني)! ٧. لكنه على النقيض من هذا التسامح والترفع عن “الغبائن” قال “عن الجيش وداعميه” بخصوص جريمة تشريد الناس من بيوتهم “التي ارتكبتها الميليشيا”: (الحقيقة هم المجرمين الحقيقيين، هم الذين ارتكبوا الجرم في حق المدنيين العزل الذين دُفِعوا خارج منازلهم، وهم الذين يستحقون المحاسبة، وأي شخص سوداني دُفِع دفعاً لأن يخرج خارج منزله ويُشرَّد خارج موطنه هو أكثر شجاعةً وأكثر بطولةً من هؤلاء الجبناء الخونة)! ٨. أصل الخلاف بين من يرفضون تسمية “الكرامة” (أي الإمارات والميليشيا وقيادات تقدم الذين توزعوا بين “صمود” و”تأسيس”)، ومن يقولون بالتسمية هو أن الأخيرين يرون أن كرامة الوطن والمواطنين قد مُسَّت بشدة بواسطة الميليشيا والإمارات، وأن التصدي لذلك من صميم الكرامة، بينما يسلم خالد عمر، ومن معه، بأن الكرامة قد مُسَّت، بل “مُرمِطت بالتراب” حسب تعبيره، لكنه يتهرب من تحديد الطرف الذي مسها، ولا يرى في “التصدي” له أي كرامةً! ٩. الملاحظ أن خالد عمر، ومجموعته، لا يعترفون بهول الجرائم في لحظة ارتكاب الميليشيا لها، وتناولها بواسطة الناس كسبب لرفض الميليشيا والمطالبة بمحاسبتها. لكنهم يعترفون بهولها عندما يهاجمون الجيش وداعميه، فينسبون الأهوال إلى الحرب، وينسبون الحرب إلى الجيش! ١٠. المقاومة هي فعل تأكيد للكرامة، هي تجليها في لحظة التهديد. فالكرامة ترتبط بالموقف، بالرفض والتصدي. ومن يقول “أنا لا أقبل الإهانة” لا يعن أن يكتب بياناً بارداً، بل يعني أنه مستعد لفعلٍ مقاوم. ولذلك فإن فصل الكرامة عن الفعل المقاوم هو فصلٌ متعسف يخدم الطرف المعتدي على الكرامة. فالكرامة لا تُمارس في الفراغ، بل في مواجهة من انتهكها. ١١. في الحقيقة خالد عمر معذور، فهذا هو المتاح بالنسبة له، إذ أن وضع الميليشيا وداعمها في غاية السوء، وقضية المتصدين لهما في غاية العدالة والوضوح، ولذلك لا يتوفر له دفاع حقيقي عن وجهة النظر التي تقول إن التصدي للميليشيا وداعمها هو عكس الكرامة، فلا دفاع متاح يستند على حجج حقيقية، والمتاح أمامه هو هذا القلب المفضوح للمعايير، وهذا التناول الذي لا يأخذ أي معنى حقيقي إلا إذا قُريء كشماتة!
لا يملك خالد عمر، ومن معه، التأهيل لتقديم محاضرات للناس عن كرامتهم وكرامة وطنهم وكيفية حفظها، لكنهم يملكون كل المؤهلات اللازمة لتقديم محاضرات تصور الكرامة كتهمة، وتسوق المهانة كواقعية، وتبيع الخضوع كترفع عن الغبائن، وتوضح كيف يمكن الدفاع عن الميليشيا وداعمها الإقليمي وهما في قمة تعديهم على كرامة الوطن والمواطنين. هذا هو نوع المحاضرات التي يملكون التأهيل لها، لكنها لن تجد من ينخدع بها إلا قليل ممن يرون الكرامة في الخضوع للميليشيا وراعيها!
