هذا الحوار تم مع البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، أستاذ التاريخ الإفريقي والإسلام بجامعة ميسوري بأمريكا – سابقاً، عن الشخصية السودانية، ضمن فصول كتاب (الشخصية السودانية في عيون صفوتها)، للكاتب السوداني عمرو منير دهب، وهو يُنشر لأول مرة في وسيلة إعلامية، بالتزامن مع ما يحدث في السودان جراء حرب أبريل 2023، لما له من أهمية مرتبطة بالراهن السوداني.. فإلى تفاصيل الحوار:
مهما قيل عن تباين ملامح الشخصية السودانية بتباين الأعراق والرُقع الجغرافية على امتداد الوطن الشاسع، كيف يمكن تلخيص أهم الملامح لشخصية سودانية جامعة؟
أعتقد أنه لدينا (باستعارة التعبير الإنقليزي) شخصية سودانية بـ”Small” شين وليس لدينا شخصية سودانية بـ “Capital” شين، وهذا فيما أعتقد المفتاح لفهم الشخصية السودانية، لذا فإن الحكم على السودانيين بواقع شخصية واحدة يصبح نوعاً من الاجتزاء ويمثِّل ما يمكن أن يسمى “قائمة شراء”، ولا يمكن اعتبار ذلك شخصية كما يراد بالمفهوم في السؤال والسياقات المماثلة، أعتقد أن الأكثر دقة الحديث عن شخصيات سودانية.
إذن هل يمكن الحديث عن شخصية سودانية في الشمال وأخرى في الوسط وكذلك الشرق والغرب والجنوب؟
الأمر ليس مرتبطاً فقط بالتنوّع الجغرافي والإثني على ذلك النحو، فالشمال وحده يضمّ أكثر من شخصية، فالعمال على سبيل المثال مثــّـلوا لشخصية سودانية ذات ملامح واضحة ومميزة وكذلك المزارعون في الأرياف، وهكذا.
الحديث عن مجموعة خصائص تجمّعت وانصهرت داخل بوتقة أو “حلّة” ونتج عنها ما يسمّى بالشخصية السودانية حديث غير صحيح. هذا لم يحدث ولا ينبغي أن يحدث أصلاً. هذا ما تحاول أن تقوله “الأفروعروبية”، التي أنتقدها، فهي تروج لمفهوم البوتقة على أساس أننا نتاج عناصر إفريقية وعناصر عربية أفرزت جماعة من “الأفروعروبيين” لهم خصائص واحدة ومسالك واحدة وآفاق واحدة. أعتقد أن البوتقة على ذلك الأساس لم تحدث وقد صارعت دون حدوثها جماعات وعوامل كثيرة.
ولكن تعامُل الدولة في إطار المجتمع المدني الحديث ألم يستوجب على الأقل تشكّل بعض الملامح لشخصية قومية واحدة وإن تعدّدت تلك الملامح؟
هذا يرتبط بما تريد أن تقدّمه الدولة عن الشخصية من وجهة أيديولوجية أكثر مما هو واقع بالفعل، حتى أمريكا تروّج في إعلامها لمفهوم الشخصية الواحدة ذات الأيديولوجية الواحدة واللغة الواحدة…
ولكن أليس ذلك صحيحاً؟، ألا توجد شخصية أمريكية واحدة بذلك المفهوم؟
ليس تماماً، فلو درسنا أمريكا بمعزل عما تقدّمه أمريكا عن نفسها نجد أن لغات وثقافات أخرى غير الإنقليزية فاعلة في المجتمع والمؤسسات التجارية، فالإسبانية متداولة على سبيل المثال في المركبات العامة التي ترتادها قطاعات كبيرة من الجماهير ذات الأصول الأمريكية اللاتينية، وشركات الاتصالات تتعدّد فيها لغات الموظفين إلى درجة وجود العربية بين تلك اللغات. هذا أمر واقع، وهو يؤكد أن الأيديولوجية التي تحاول الدولة فرضها قسراً على مفهوم الشخصية لم يكن بإمكانها أن تنسحب على قطاع المال والأعمال مثلاً. في المقابل نجد كذلك أن مسألة ” الفرص” التي تروّج لها الدولة في أمريكا لا تطرق باب ملايين البشر هناك، هذا يؤكد أن الشخصية الأمريكية المقدَّمة للعالم هي شخصية مُتوهّمة “بروباقاندية”.
من ناحية أخرى يجب الانتباه إلى أن المداخل لمفهوم الشخصية تختلف حتى لدى الغرب، فمفهوم الأمريكان غير مفهوم الإنقليز مثلاً.
ولكن ألا ترى أن المقارنة صعبة بين ما يتعلّق بمفهوم الشخصية وتكوينها في الغرب وبين ما يحدث في بلد مثل السودان لم يبلغ ذلك النضج في ذات السياق؟
المسألة ليست مسألة مقارنة بقدر ما هي أطر للنقاش، الأمريكان صنعوا ما يُسمّى بـ “نظرية البوتقة” وهي التي من خلالها يناقش الناس هناك قضية الشخصية على أساس أن هناك شخصية نهائية تكوّنت نتيجة انصهار كل الثقافات المهاجرة داخل تلك البوتقة، لكن ذلك لم يحدث في واقع الأمر، إنه مجرد وهم صنعته الدولة، ذلك أن الأسهل للدولة كي تدير المجتمع أن يكون الناس قوالب متشابهة.
هناك نظرية أخرى هي نظرية التنوّع، وسويسرا التي اعترفت باكراً بتعدد اللغات الرسمية مثال جيّد على ذلك حيث أمنت كل جماعة إلى لسانها، وهذه النظرية أقرب إلى المصداقية، فالبوتقة التي يتحدث عنها الأمريكان تمّت – حيثما تمّت – بشكل من أشكال العنف. حدث هذا في فرنسا مثلاً يوماً ما، ولو أن فرنسا كانت تتشكّل في عالمنا اليوم لحدثت فيها مشكلة دارفور لأن كل ما يجري اليوم يخضع للمراقبة، وما فعلته فرنسا وهي تتشكل تمّ في القرن التاسع عشر حيث لم يكن هنالك من يراقب أو يأبه لمثل تلك الأمور كما يحدث الآن، وهناك أكثر من مثال اليوم على دول ترفض نظرية البوتقة وتنحاز للتنوّع.
لا نريد أن ندخل في مماثلات، ولكنّ هناك إطارين كبيرين للمناقشة أحدهما الأمة التي تتشكل في بوتقة والآخر المواطنة التي تتشكّل في إطار التنوّع الذي يكفل المساواة في الاعتراف باللغات والثقافات المتعددة بشكل رسمي.
ألا ترى تعارضاً بين وعي السوداني وعقله الباطن فيما يتعلق بالانتماء؟، كأنما يتشبث الأول بالعروبة ويرتاح الأخير للثقافات غير العربية التي تشرّب بها على مدى تاريخه؟
هناك عروبة وهناك إفريقيا في حياتنا، ولكن ليس في إطار نظرية البوتقة بل بما يسمح بمنطق التعدد. أنت لا تشعر البتة بأن الإسلام والعروبة مضطربان في تكوين الناس في السودان بل إنهم يحسونهما حقيقة. عندما تتأمل مثلاً رحلة الحج الروحانية المقدّسة وأشواق المادحين في وصفها تحسّ بأنهم عندما يصفون قوافل الحجيج إلى الأراضي المقدسة كأنما يخرجون من انتمائهم للوطن إلى نوع آخر من الانتماء الروحاني وهو انتماء واقع وملموس، إنه انتماء إلى مشاعر وأماكن بعينها. الكثير من قصائد الصوفية يناجي أولياء في بقاع غير سودانية يشعر الصوفي السوداني بأنه ينتمي إليها تماماً. أنا لا أريد أن أدخل في “غلاط” مع هذا الكائن: هل أنت إفريقي أم عربي؟، هذا ليس من الحكمة في شيء. نحن لا نستطيع أن نحاكم الدينكاوي: هل أنت تنتمي إلى منطقة الدينكا في السودان تحديداً أم إلى ما يتبع ذات القبيلة خارج حدود السودان؟، تلك حدود مفتعلة، قد يحس ذلك الرجل بانتمائه إلى منطقة في زائير لأن جده دُفن هناك ويشعر بسعادة كبيرة بذلك الإنتماء. الدخول في مثل هذه المغالطات حول الانتماء هو بمثابة “تفتيش” في الثقافات وهذا غير صحيح بطبيعة الحال.
عندما التقى عبد الناصر ونيكروما أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات تشكلت صورة جديدة للانتماء إفريقياً وعربياً لدينا ولم نجد أية صعوبة في ذلك، لم نكن بحاجة في الواقع لكي نعرف على وجه التحديد أي إرث إفريقي داخلنا وأية علامة إفريقية تسِمنا بل كنا ننظر إلى إفريقيتنا من خلال التحالفات التي تمت بين العرب والأفارقة ضد الاستعمار.
هناك أيضاً من الانتماءات غير العربية ما جاءنا عن طريق الإنقليزية وليس الإفريقية، لقد جاءت تلك الانتماءات مرتدية الزي الإنقليزي، إنقليزيتنا هي جزء آخر من هويّتنا يمثل لهوية غربية…
ولكن هذه الإنقليزية حديثة التأثير جداً وتأثيرها يكاد يكون منحصراً في النخبة، أليس كذلك؟
لذلك أقول إن النخبة شخصية من الشخصيات السودانية، وهناك نماذج أخرى للشخصية السودانية لم تمسها الثقافة الإنقليزية. أعتقد لذلك أن مسألة الهوية شديدة التعقيد، أهم ما في الأمر أن تمنح الناس الطلاقة في اختيار الهوية، هذا هو الأمن الذي يبحثون عنه، وليس لأحد الحق في التفتيش أو التأمر في مسألة كتلك. الدولة هي التي يجب أن تؤمِّن ذلك بالتعليم الديموقراطي والانتخاب الديموقراطي والتشاور حول السياسات التعليمية والتربوية والصحية، وبالالتزام بتعدد الثقافات واللغات. لقد دعوت إلى ألا تكون اللغة العربية اللغة الرئيسية، فمن الممكن أن تكون هناك أكثر من لغة متداولة بشكل متساوٍ…
ولكن أية دولة، سواء أكانت ديموقراطية أم لا، يكون لها توجّه محدّد فيما يتعلّق بتشكيل الهوية، وقد تبدو اللغة عاملاً ثانوياً أحياناً ضمن ذلك التوجه المتعلّق بتشكيل الهوية. سويسرا مثلاً لا يوجد بها خلاف إثني يُذكر ولا تباين أيديولوجي أو ثقافي أو حضاري بين المجموعات الناطقة بلغات مختلفة، ذات الكلام ينطبق على كندا. ولكن في السودان الإشكالية أكبر، هنا لغة عربية مقابل لغات ولهجات إفريقية عديدة، هنا الإسلام ليس مقابلاً للمسيحية فحسب ولكن لديانات وثنية عديدة. الاختلاف إذن لدينا ليس في اللغة وحدها، أليس كذلك؟
صراعنا أساساً ليس حول تكوين الشخصية في المقام الأول، مشكلتنا في السودان أبعد من ذلك، المطابقات غير ممكنة ولكن علينا أن نتذكر أن ظروفاً مشابهة مرّت – يوماً ما – بها البلدان الغربية التي يُنظر إليها الآن على أنها أمة واحدة. لقد تكوّنت تلك الأوطان في أزمنة تمت إبادة ثقافات خلالها كما ذكرت في البداية، وإلى اليوم لا تزال هناك اختلافات كبيرة بين سكان بلد واحد مثل كندا من الناحية العرقية والثقافية…
ولكن ليس لذلك انعاكس على الهوية الواحدة التي تشكلت هناك…
تبقى هذه شكوى في حق بلد مثل كندا إذا لم يعكس أمراً واقعاً وليست شكوى من أن ذلك البلد ليس به تنوّع ثقافي…
أخشى إذن أن يكون انتظار بزوغ شخصية واحدة متماسكة ضرب من الوهم من غير صراعات تقمع الثقافات الأضعف مثلما حدث في الغرب في زمن ما كما قلت…
الذي حصل أن أمريكا أبادت الهنود الحمر وسحقت ثقافتهم في زمن لم يكن أحد فيه يعبأ بما يجري على تلك الشاكلة، نحن الآن ملزمون بمواثيق وعهود وثمة من يراقب في يقظة ويفتش. ربما كان من الممكن أن تكون هناك شخصية سودانية واحدة الآن لو أننا أبدنا ثقافة الحلب وثقافة دارفور وجبال النوبة منذ القرن التاسع عشر كما فعلت انقلترا مثلاً عند تكوين دولتها حين أذلّت الأسكتلنديين وأهالي ويلز وأهانتهم، ولكن الزمن الذي كانت فيه شخصية واحدة تطغى على الأخريات قد انتهى…
إذن السودان في حالة تشكّل أمام وضع فريد…
وضع عالمي فريد يجعل البوتقة نظرية غير صالحة وغير عملية ومكروهة ومحاربة، ولا يبقى أمامك سوى التنوّع، كيف تديره؟، كيف تجعل كل هذه الشخصيات تتآخى في بلد واحد من خلال عملية تتطلب بعض التنازلات أحياناً كأن تُقبل جماعة على تعلّم لغة غير لغتها الأم من أجل أن تتعايش مع جماعة أكبر؟. هكذا يتم التخصيب والتلاقح، وهذا يستغرق زمناً طويلاً ويتطلّب أن تعيد الدولة صياغة نفسها من التفكير في حالة البوتقة إلى حالة التنوع التي تقتضي أن تحظى كل اللغات بالاحترام بحيث لا تصبح هناك ميزة لأية لغة على غيرها إلا بتنازل المجموعات غير المتحدثة بها عن طيب خاطر. في جنوب إفريقيا هناك تسع لغات مكتوبة…
ولكن كم لغة مكتوبة عندنا في السودان؟، العربية فقط أليس كذلك؟
هذه ليست مشكلة، الكتابة هي الشق الأسهل فيما يخص اللغات…
ولكن الطرف الذي لديه لغة مكتوبة جاهزة سيقدم نفسه على أنه الطرف الأقوى…
كان بإمكانه أن يقدم نفسه كذلك في القرن التاسع عشر ويبيد الجماعات الأخرى، ولكن ذلك لا يمكن أن يحدث اليوم، أقول ذلك مجدداً، سوف يهتف النوبة مطالبين بلغتهم وكذلك الجنوبيون وغيرهم وهناك من يسمع الهتاف ويراقب، ليس بإمكان أحد أن يقمع ذلك الآن. في المقابل يمكن اتخاذ لغة واحدة فقط لتكون رسمية شريطة أن يتم ذلك بالتراضي لاعتبارات إدارية في الدولة. الهند مثلاً حافلة برصيد غني من اللغات ومع ذلك ارتضت الإنقليزية لغة رسمية لاعتبارات كثيرة معقدة. الشيء نفسه حدث في كينيا، الإنقليزية لغة مستعمر ولكن لم يكن ثمة ما يمنع قبولها في تلك البلاد كلغة رسمية من دون أن يشكّك ذلك في وطنية أهلها.
هذا مدخل جميل إلى سؤال هام، هل ترى أن اللغة الإنقليزية إحدى المكوّنات الثقافية “الشرعية” للنخبة السودانية؟
مائة بالمائة، إنها إحدى المكونات الشرعية لأنه لا مهرب منها، فـ”الناس” تفكر من خلالها، ولأنها تسربت إلى نفوس الناس وسكنت تصوراتهم. اللغة الإنقليزية لم تنقطع بزوال الاستعمار، لا يزال الناس يتلقون معارفهم بها ولا تزال الـ”Models” إنقليزية، الأصوليون يعتقدون أنهم اجتثوا ذلك المكوّن من داخلهم وهذا اعتقاد ضال تماماً، ذلك لم يحدث. ولذلك تظل هناك شخصية مزيفة تحاول أن تتصل بمثال غير صادق يحاول أن يملي على المجتمع ماذا يلبس وكيف يفعل…
ولكن ألا ترى أن النخبة السودانية كانت ضحية للغة الإنقليزية تحديداً؟، أين تلك النخبة من اللغات الأوربية الأخرى وثقافاتها كالفرنسية والألمانية وغيرهما؟
الإنقليزية دخلت كإحدى مكوّنات الشخصية السودانية بتأثير ضغط الاستعمار الذي لم يكن يسمح بتداول لغة جاره، الشيء نفسه يقال عن الثقافة الفرانكفونية في تحيزها، ونحن ورثنا حزازات المستعمر في الانحياز إلى لغته. هذا وضع يصحّ أن يعدّل عقب الاستقلال وعقب استعادتنا لإرادتنا الوطنية، فمن ورث الإنقليزية ورثها مرغماً ومن ورث الفرنسية ورثها مرغماً. لقد حدث في جامعاتنا أن حاول البعض تصحيح ذلك بإلغاء الإنقليزية والتدريس بالعربية، تلك تجربة لا أعلم مدى نجاحها لكنها إحدى محاولات ذلك التصحيح، حدث كذلك أن تم إدخال اللغة الروسية إلى جامعة الخرطوم في حقبة مختلفة وكانت المحاولة على أية حال تصب في سياق تصحيح الانحياز للغة الإنقليزية.
لِمَ كان علينا النظر إلى التباين العرقي الكبير على أنه هبة ينبغي الاحتفاء بها؟. بالتجاوز عما يمكن وصفه بـ”الاستراتيجي” من الدوافع، هل ثمة ما يمكن وصفه بـ”الأنثروبولوجي” من الدواعي التي تعزز تلك النظرة إيجابياً فيما يتعلق بتكوين الأمم؟
المعايير تختلف فيما أعتقد، إذا أحب الواحد أن يسلك الطريق المختصر لمعالجة التباين فهو الوحدة، لكن ذلك لا يعني السلامة بالضرورة، فالسلامة عبر هذا الطريق قد ينقلب بعضها على بعض، إن لم يكن بدافع اللغة فبدافع الاقتصاد أو الاتساع الجغرافي أو غير ذلك. أنا أنظر إلى مسألة التباين في النهاية على أنها نوع من التحدّي.
هل ضيّع السودانيون على اختلاف طوائفهم منذ الاستقلال فرصة الإفادة من علاقات مميزة، في المحيط الجغرافي الأدنى وما وراءه، وشرعوا في أشكال منمطة لعلاقات بدت كأنها مقرّرة في منهج السياسة الخارجية السودانية؟
الانتباه هنا قد ينصرف إلى العرب، العلاقات الخارجية للسودان مرتبطة بفترة ما بعد الاستقلال مباشرة، وإن كانت تلك الفترة وما تلاها مباشرة شهدت انفتاحاً أكبر نسبياً مما جاء بعد ذلك. كان يُكتب في جواز سفر السوداني “غير مصرّح بدخول جنوب إفريقيا وإسرائيل”، وهذا يمثل تضامناً مبكّراً مع قضية إفريقية كتلك، لكن ذلك لا يُذكر للسودان الآن. البداية شهدت تنوّعاً نسبياً ثم دخلنا في منظومة اقتصادية لم يكن ثمة مهرب منها مع ما سُمّي بسلة غذاء العالم ثم البترول العربي.
السودان كان شديد الارتباط ببعده الإفريقي يوماً ما، لقد كان مأوى لثوّار من دول إفريقية، هل تعلم أن محامين سودانيين ذهبوا للدفاع عن مناضلين في كينيا؟، الأمثلة في هذا السياق كثيرة. يجب الانتباه كذلك إلى أن الكلام عن العلاقات المنمطة يكتنفه أحياناً سوء النية، يجب النظر إلى المسألة بأفق أكثر اتساعاً لا يجتزئ مرحلة من التاريخ ليقرأها ويتجاوز غيرها.
هل كانت النخبة السودانية ضحية بقدر ما كانت متورطة في مشاكل سودان ما بعد الاستقلال؟، هل للمسألة جوانب قدَرية حتمية لم يكن من الممكن تلافيها قبل أن تستغرق دورة زمنية ما؟
الأمر مرتبط بالقوى الأكبر تأثيراً، في البداية كان هناك وادي النيل، ارتبط السودان بمصر وكانت ثقافته عربية، وكانت الحركة الوطنية عبارة عن حالة عربية خالصة، حالة “وادي-نيلية” تتعاون مع مصر من أجل أن تهزم المستعمر. هذه هي الملابسات التي تشكلت خلالها النخبة، واعتقلها داخل ذلك إطارٌ بعينه، في هذه الحالة هي ضحية.
هل قامت النخبة بتصحيح مسارها بعد أن اكتشفت أنها ضحية؟، أم أنها لم تكتشف ذلك مبكراً؟
لم تستطع أن تصحح مسارها، فهي لم تستطع أن تخرج من ذلك الإطار، فقد هجمت عليها القوميات الأخرى وأصبحت هي في موقع المدافع عن الثقافة العربية، ثم لاحقاً أصبح من تلك النخبة من يوقع العقوبات على أهله بتطبيق الشريعة والحدود. ماهي الحدود؟، إنها حدودك أنت من الآخرين، حدودك أنت كعربي إسلامي من الآخرين الذين لا يشملهم هذا الأمر، بهذا المعنى أصبحت النخبة جانية.
لكن النخبة ابتداءً هي ضحية، وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر طريفة فإنها كانت كالعنكبوت الذي يفرز كل تلك الخيوط ليموت داخلها في النهاية.
بأي قدر كانت الشخصية السودانية نفسها مسؤولة عن عدم استقرار البلاد؟، هل كان السوداني متطلّباً أكثر مما ينبغي فيما يتعلق بطموحاته السياسية؟
بداية لا أعتقد أنه كان هناك أي نوع من التواطؤ في السياسة السودانية، كان ثمة صراع شديد نشأ منذ بداية الحركة الوطنية، منذ الأربعينيات، ومنذ الحرب العالمية الثانية تشعر بأنه كانت هناك حركات وطنية عديدة، وهذا هو الذي استدعى الاهتمام الكبير بالسياسة من قبل الشعب كله، وأنا أعتقد أن هذا هو مكسبنا…
تسييس الشعب كله؟
نعم تسييس الشعب حول تلك القضايا الوطنية.
ولكن ألا ترى أن اهتمام الشعب بالسياسة كان أكثر مما ينبغي؟
إذا كان مطلوباً من الشعب أن ينفعل مع الديموقراطية فإنه يجب عليه أن يهتم بالسياسة إلى أبعد الحدود، فهو دائماً في حاجة إلى المعلومات ليتجاوب مع النظام الديموقراطي ويراقب الأجهزة المختلفة بالدولة.
هذا هو دور السياسي وليس رجل الشارع…
إذا نجحت في تسييس رجل الشارع تكون قد بلغت من الديموقراطية أعلى مراتبها.
ولكن هل رجل الشارع اليوم في الغرب – الذي هو ديمقراطي بامتياز – مسيّس؟
هو إجمالاً مسيّس، والغير مسيس توجد رغبة في تسييسه.
ما أعنيه أنهم نجحوا في إنشاء ديموقراطياتهم من غير أن يكون الشعب مسيّساً بالقدر الذي هو عليه شعبٌ مثل الشعب السوداني…
عندما كانت دولهم تـُبنى كان الشعب مسيّساً بدرجة أكبر، وإن كنت أصرّ على أنهم هناك لا يزالون مسيّسين بدرجة كبيرة، ينبغي أن يعرف رجل الشارع في أمريكا مثلاً ما يحدث في الخارج ليصوّت على أساسه لصالح هذا المرشح أو ذاك.
ولكن أمريكا اليوم تمارس دور شرطي العالم المعروف عنها من خلال تغييب المواطن الأمريكي عمّا يحدث في العالم، الشعب الأمريكي لا يعنيه كثيراً ما يجري خارج الولايات المتحدة إلا بالقدر الذي يؤثر على حياته في الداخل…
قد يكون ذلك هو موقف الدولة وتوجهها الذي تحاول فرضه، ولكن قطاعات معتبرة من الناخبين الأمريكيين لها موقف مغاير، هناك حركات مثل ” موف أون” وغيرها من الحركات غير الحكومية تسعى في اتجاه الاهتمام بالموقف الأمريكي مما يجري في نيكاراغوا مثلاً والحصول على معلومات صحيحة عن القضية الفلسطينية وغيرها وجعل كل ذلك عاملاً مؤثراً في تصويت الناخب الأمريكي في الانتخابات الرئاسية. لذلك أعتقد أنه من المهم جداً أن نواصل تنمية وعينا السياسي، السياسة هي في واقع الأمر وعي، ومن دون الوعي لا يمكنك أن تقع على أي إنجاز.
هل كان أفضل ما في سودان ما بعد الاستقلال قدرته على تجاوز الأزمات؟، أم أن أسوأ ما فيه كان إصراره على تكرار ذات الأزمات؟
التخبط في الأزمات كان ملمحاً واضحاً للقيادات السودانية عامة، إنها لم تستطع أن تنتشل نفسها من الأزمات على كثرة المساعدات التي قُدِّمت لها من حركات مثل “أكتوبر” التي لفتت الانتباه إلى أن سياسات أخرى يمكن أن تُتخذ، وبعد ثورة “أكتوبر” جاءت الانتفاضة بتنبيه مماثل، ولكن هذا النادي السياسي صحّ في حقه دائماً أنه “لم ينس شيئاً ولم يتعلّم شيئاً”.
إلى أي حد تجاوزت الشخصية السودانية الدروس الأولى في استيعاب مفهوم المؤسسة في المجتمع المدني الحديث؟
نعود إلى تكرار أن هناك شخصيات سودانية متعدّدة وليس شخصية سودانية واحدة، بعض تلك الشخصيات كانت روحها أوسع من روح القبيلة، نقابة عمال “السكة حديد” كانت وطناً يضم العمال من حلفا إلى ما يقرب من نيمولي، هذا جهاز لم يكن قـبَلياً وليس من الممكن مقارنته مع جماعة مثل الكبابيش تصدر في أفعالها عن روح قبلية بامتياز، هذا هو ما يردّنا إلى أن هناك تنوّعاً وخبرات تاريخية مختلفة للشخصية السودانية.
من الصعب مقارنة اتحاد عمالي بقبيلة، ولكن داخل ذلك الاتحاد العمالي نفسه ألم تكن روح القبيلة وسلوك القرية ملموسين؟
كانت روح القرية الإيجابية ملموسة: التعاطف، التعاضد، السؤال، الولاء، الفداء. روح القرية تتضمن أشياء جميلة كثيرة، لم يكن أحد في ذلك الجهاز يبحث عن شيء معنوي مجرد اسمه “روح القرية” ليطبّقه على علّاته.
ذلك مثال واحد ضمن أمثلة قد تكون غير قليلة إذا افترضنا أنها كانت إيجابية في أغلب أوقاتها، ولكن هل تشكّلت في السودان أجهزته المدنية بمفهومها المؤسسي اليوم؟، أم أن السوداني مضطر للبحث عن اتحاد عمالي هنا ونقابة مهنية هناك تطالب له بحقوقه؟
أظنك تتكلم عن المؤسسات القبلية التي يصفها الناس بأنها تكوينات رجعية ضيقة، تلك قضية أخرى، ولكن الاتحادات العمالية والنقابات المهنية كانت تعمل على مستوى الوطن وذلك أمر ليس بالهين ولا أظن أن دولة حديثة واحدة استغنت عن أمثال تلك الاتحادات والنقابات.
لنأخذ مثلاً إحدى جامعاتنا أو مؤسساتنا الحكومية العريقة، هل تعتقد أن العمل فيها يجرى من دون تأثير الانعكاسات السلبية لروح القرية والقبيلة في العمل؟، هل العمل كقيمة مقدّم على الواجبات الاجتماعية في تلك الأجهزة؟
إذا انتبهنا إلى أن السوداني كان يعمل بجد وانضباط كبيرين أيام الإنقليز نتبيّن أن المسألة ليست متعلقة بأصل سوداني أو جينات سودانية. الانفلات الذي حدث في الأداء المؤسسي في فترة الاستقلال ينبغي أن ينظر إليه في سياقه وليس مجتزءاً، لقد وجد المستعمر في الشخصية السودانية “قماشة” صالحة صنع منها الكثير فيما يتعلّق بالعمل المؤسسي، و”السكة حديد” خير مثال. الذي حدث أنه عند الاستقلال تفككت أطر وتشكّلت أطر أخرى وصاحب ذلك الكثير من الخلل، فقدنا الأطر التي كانت تسع كل من يعمل وصنعنا أطراً تبيح “التطهير” و”الرفت” والتعيين على صلة القربى والولاء. مثل هذا هو ما أفسد مؤسسات كالخطوط الجوية السودانية التي استوعبت فوق طاقاتها التشغيلية و”السكة حديد” نفسها التي أُسيء فيها استخدام التصاريح، كل ذلك تم بدوافع لم تكن موجودة كالمحسوبية.
ألا ترى أن أي مجتمع مدني حديث لا بد أن ينهض على أنقاض مفهوم القرية حتى بما يحمله من معاني جميلة؟. يرى البعض أن التكافل القروي مثلاً قد يكون عاملاً أساسياً في تراخي الشباب في البحث عن فرص عمل واقعية ما دام ثم مَن يمد يد العون.
لقد تحدثنا عن الفترة التي لم تكن روح القرية فيها – فيما يخص العمل – تعني “سدّ الخانة” لأحد، ولكن يجب أن نفرّق بين القرية والأسرة، فالتعاضد الأسري موجود في العالم كله. إذا عدنا لمثال “السكة حديد” مجدداً كان هناك التزام حادّ بمواعيد العمل، يبدأ العمل الثامنة صباحاً ولا مجال للتوقيع على دفتر الحضور بعد ذلك، ومن يحاول التعدي على ذلك يُحال إلى مجلس تأديب، لا سبيل إلى أية واسطة أو محاباة.
ليس صحيحاً بحال أن المجتمع المدني ينبغي أن ينهض على أنقاض مفاهيم التعاضد الأسري، المسألة ليست بتلك المباشرة في الصياغة ولا بتلك الحَدّية. في المسرحيات الأجنبية تجد مَن يشكو من أنه علّم ابنه ونهض بتربيته ثم أتاه الابن عائداً ليعيش معه، ما يعني أن ذلك يحدث عندهم.
أعتقد أنه من المشروع أن نطرح السؤال كما يلي: هل الأولوية للعمل أم للواجب الاجتماعي؟
أنا لم أسمع فيما مضى أن ناساً تركوا أعمالهم عن بكرة أبيهم وذهبوا لتقديم واجب العزاء، هذا جديد وهو يدخل في سياق انفلات الأطر الذي أشرنا إليه. هناك ثقافة جديدة لم تستطع أن تلائم نفسها مع أخلاقيات العمل، ليس مشروعاً أن يذهب كل الموظفين في سيارات مؤسسة حكومية لمجاملة اجتماعية، علينا أن نتعلم كيف أن الصلاة نفسها يمكن إقامتها بما لا يعطّل سير العمل، من الممكن إقامة صِلات اجتماعية داخل أية مؤسسة كما يحدث في أمريكا، كنا هناك ونحن بصدد الذهاب إلى قاعة التدريس نفاجأ بظرف مكتوب عليه أن زميلاً رُزق بمولود اسمه كذا ووزنه كذا فنجمع مساهمات مادية لشراء هدية مشتركة. إذن في الغرب الخبر الاجتماعي موجود في العمل وهناك شكل من أشكال الدعم الاجتماعي المعنوي والمادي، ولكن الانقطاع عن العمل غير وارد. من الممكن أن نصل هنا إلى صيغ مشابهة.
ما الذي يستوجب الاحتفاء به بشدة في الشخصية السودانية وتخشى عليه من الضياع؟، وما الذي يستوجب في المقابل الحض على التخلّي عنه فوراً من سمات في ذات الشخصية؟
أذكّر بأنني لا أرى شخصية سودانية واحدة وإنما شخصيات سودانية. عموماً ما يستوجب الاحتفاء لدينا هو الاهتمام بالسياسة، التسييس، ذلك من أهم سمات الشخصية السودانية التي يجب المحافظة عليها. في المقابل ينبغي أن نكف عن دعوة العالم إلى همومنا الوطنية على الشاكلة التي عرفناها حديثاً، يجب أن يكون حسنا الوطني أكثر رهافة في معالجة مشاكلنا.
أية شخصية سودانية كانت في تقديرك الأعمق تأثيراً على مدى تاريخ السودان؟
أعتقد أن عبد الخالق محجوب كان عميق الأثر في تاريخ السودان الحديث بما كان يعرض في أجندته الفكرية والسياسية من قضايا جوهرية ينعكس أثرها على المجتمع بأسره وليس فقط على قطاعات محدودة من ذلك المجتمع.