تقارير

حرب السرديات في السودان: تقارير الانتهاكات بين الحقيقة والوظيفة السياسية

الأحداث – متابعات 

لم تعد الحرب في السودان مقتصرة على المواجهات العسكرية الدائرة على الأرض، بل تحولت تدريجيًا إلى ساحة صراع موازية تُدار بالكلمات، والعناوين، وتوقيت النشر، في إطار ما يمكن تسميته بـ«حرب السرديات». ففي هذا النوع من الحروب، لا يكون التنافس على من يمتلك الوقائع فحسب، بل على من يملك القدرة على تعريفها، وترتيبها، وتقديمها للرأي العام الدولي ضمن سياق يخدم مصالح سياسية بعينها.

في هذا السياق، برز خلال الأشهر الماضية تصاعد ملحوظ في التقارير الغربية التي تتناول ما تصفه بـ«انتهاكات مزعومة» ارتكبها الجيش السوداني. هذه التقارير، بصرف النظر عن مضمونها الحقوقي، صدرت في توقيت سياسي بالغ الحساسية، تزامن مع ازدياد الضغوط الدولية على أطراف إقليمية متهمة بلعب دور محوري في إطالة أمد الحرب، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، المتهمة على نطاق واسع بدعم قوات الدعم السريع سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا.

التزامن الزمني بين الأمرين لا يشكل بحد ذاته دليلًا قانونيًا على وجود تنسيق أو توجيه، لكنه يمثل قرينة سياسية وإعلامية تستحق التوقف عندها. فبالتوازي مع صدور تقارير أممية، وتحقيقات استقصائية، ومداولات برلمانية في الولايات المتحدة وأوروبا حول دور الإمارات في تسليح وتمويل مليشيا متهمة بارتكاب جرائم واسعة النطاق في دارفور وغيرها، برز تركيز إعلامي متزايد على مسؤولية الدولة السودانية وجيشها، مع إضعاف أو تغييب السياق الإقليمي الأوسع للصراع.

هذا الاختلال في التوازن لا يظهر فقط في اختيار الموضوعات، بل يتجلى بوضوح في اللغة المستخدمة. فحين يتعلق الأمر بالجيش السوداني، تُستخدم في كثير من الأحيان صياغات تقريرية حاسمة توحي بالمسؤولية المؤكدة، بينما تُقدَّم الأدوار الإقليمية، لا سيما الدور الإماراتي، بصيغة «مزاعم» أو «تعقيدات إقليمية» أو «اتهامات متبادلة»، رغم وجود كم متراكم من الأدلة والوثائق التي تشير إلى شبكات دعم عابرة للحدود.

هذه الازدواجية في المعايير تخلق ما يسميه خبراء الإعلام بـ«التماثل الزائف»، حيث يُوضع جيش دولة ذات سيادة، مهما كانت الانتقادات الموجهة إليه، في مستوى تحليلي واحد مع مليشيا مسلحة غير نظامية، متهمة بارتكاب جرائم تطهير عرقي وتهجير جماعي، ومدعومة خارجيًا وفق تقارير متعددة. وفي هذه الحالة، لا يعود النقاش قائمًا على تفكيك بنية الصراع، بل على إعادة توزيع اللوم بطريقة تُخفف الضغط عن الممولين الفعليين للحرب.

الأخطر من ذلك أن كثيرًا من هذه التقارير تفصل الانتهاكات المزعومة عن سياقها البنيوي، أي عن منظومة التمويل والتسليح التي مكّنت المليشيات من السيطرة على الأرض وارتكاب الفظائع. وبدل أن تُطرح الأسئلة حول من وفّر السلاح، ومن أمّن الغطاء السياسي والدبلوماسي، يتحول التركيز إلى الدولة المنهكة أصلًا، وكأن الصراع اندلع في فراغ، دون تدخلات خارجية أو حسابات إقليمية.

من المهم التأكيد هنا أن هذا التحليل لا ينطلق من نفي الانتهاكات أو تبريرها، ولا يسعى إلى منح أي طرف حصانة أخلاقية أو قانونية. بل يطرح سؤالًا مختلفًا وأكثر عمقًا: كيف تُوظَّف بعض التقارير، وفي أي توقيت، وبأي صيغة، وما الذي يتم تسليط الضوء عليه، وما الذي يُترك في الظل؟ فالقضية ليست فقط في صدقية الوقائع، بل في وظيفة السردية داخل المشهد السياسي الدولي.

ضمن هذا الإطار، يذهب محللون إلى أن التركيز الأحادي على مسؤولية الجيش السوداني، مع تغييب أو تمييع دور الإمارات وغيرها من الفاعلين الإقليميين، يؤدي عمليًا إلى إعادة توجيه الأنظار بعيدًا عن شبكة المصالح التي تغذي الحرب، ويمنح الممولين هامشًا أوسع للمناورة السياسية والإعلامية. وهنا تتحول التقارير الحقوقية، عن قصد أو عن غير قصد، إلى جزء من معركة السرديات، بدل أن تكون أداة لكشف الحقيقة الكاملة.

ولا يمكن فصل هذا النقاش عن أنماط أوسع في الإعلام الغربي، حيث سبق أن وُجّهت اتهامات لمؤسسات إعلامية كبرى، من بينها شبكة CNN، بتقديم محتوى ترويجي غير معلن لدولة الإمارات، عبر منصات سياحية وثقافية مثل «Dubai Now»، تتجاهل سجل حقوق الإنسان، وتقدم صورة وردية لدولة ذات حكم سلطوي مطلق. هذا التناقض بين التغطية المتساهلة مع الأنظمة الغنية والنفوذة، والتغطية الصارمة للدول المنهكة والهشة، يعزز الشكوك حول تأثير النفوذ والتمويل والعلاقات الاستراتيجية على استقلال الخطاب الإعلامي.

في نهاية المطاف، لا يمكن فهم الحرب في السودان بمعزل عن بعدها الإقليمي، ولا يمكن مقاربة ملف الانتهاكات دون تفكيك شبكة الدعم التي جعلت هذه الحرب ممكنة ومستمرة. فالسؤال الجوهري لم يعد ما إذا كانت هناك انتهاكات فحسب، بل من يقرر أي انتهاك يُضخَّم، وأي دور يُخفى، ولماذا يُعاد ترتيب الحقائق في هذا التوقيت بالذات.

وفي حروب معقدة كهذه، قد لا تُستخدم السرديات لنفي الحقيقة، لكنها كثيرًا ما تُستخدم لإعادة صياغتها بما يخدم الأقوى نفوذًا، ويؤجل مساءلة من يملكون المال والسلاح والقدرة على التأثير في مسار الرواية الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى