تقارير

حربٌ جديدة في الجزيرة: ثلاثية «الضنك، الملاريا، الكوليرا»

بينما يُعاني الناس في ولاية الجزيرة من تفشّي الأمراض، التي يأتي على رأسها «حمّى الضنك، والملاريا، والكوليرا»، فضلاً عن انتشار التهاب الكبد الوبائي من النوع C، وتتزايد التقارير اليومية عن ارتفاع عدد الحالات المرضية؛ فإنهم يسخرون مما أصابهم. ومن المألوف أن تجد شخصاً يُحادث آخر في الهاتف، ليُبلغه بإصابة مَرضية حلَّت بأحدهم، فيقول له: «فُلان ضربته مُسيَّرة»، في إشارة إلى إصابته بأحد الأمراض المنتشرة هذه الأيام، تشبيهاً لنواقل الأمراض بالمُسيَّرات التي ارتبطت بالحرب وطبعت ذاكرتهم.
وأكّد تقرير الترصّد والمعلومات، الذي أصدره مركز عمليات الطوارئ الاتحادي، الثلاثاء الماضي، تسجيل 3676 إصابة بحمى الضنك في سبع ولايات، وتُمثّل ولاية الخرطوم أعلى معدل بنسبة 80%، تليها الجزيرة بنسبة 11.8%، وبلغت إصابات الكبد الوبائي 59 إصابة، منها 5 حالات وفاة جميعها بولاية الجزيرة.
ودعا الاجتماع المشترك بين وزارة الصحة بولاية الجزيرة والمنظّمات العاملة في القطاع الصحي وفريق الإسناد من منظمة الصحة العالمية، صباح الثلاثاء نفسه، إلى ضرورة توفير إمداد دوائي مستقرّ لمقابلة حالات حمى الضنك والملاريا.
وشدّد الاجتماع على أهمية تفعيل البلاغ الصفري – التبليغ في حالة الاشتباه أو عدمه – لحالات الضنك والملاريا في المراكز الصحية المدعومة من المنظمات، إلى جانب عقد تنويرٍ للمتطوّعين بهدف تعزيز الاكتشاف المبكّر لحالات حمى الضنك، ورفع الوعي الصحي، والمشاركة في التدخّلات السريعة.
الوضع بالغ الخطورة

من جهتها، أعلنت غرفة طوارئ وحدة المحيريبا الإدارية بمحلية الحصاحيصا، أنّ الوحدة تواجه وضعاً صحياً بالغ الخطورة بسبب الانتشار السريع لحمّى الضنك في المنطقة. وكشفت الغرفة عن أنه قد رُصِدَتْ 117 حالة إصابة مؤكّدة حتى يوم الأحد 21 سبتمبر الماضي، في ظلّ ضعف الإمكانات الطبية والبيئية.
وناشدت غرفة طوارئ المحيريبا الجهات الصحية الرسمية والمنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني، التدخّلَ العاجلَ من أجل دعم المراكز الصحية بالأدوية والكوادر، وتنفيذ حملات رشٍّ بيئيٍّ لمُكافحة البعوض الناقل، إضافة إلى توعية للمواطنين بطرق الوقاية.
وكشف عضو بغرفة طوارئ المحيريبا، طلب حجب اسمه، لمراسل «أتَـر»، أنّ هناك زيادة «مقلقة» في حالات التردّد على مستشفيات ومراكز المنطقة، حيث تشهد انتشاراً واسعاً لحمّى الضنك، بمتوسّطٍ رصدته الغرفة بـ 13 حالة يومياً في المستشفى الكبير بالوحدة. وكشف أيضاً أن 45% من حالات التردّد اليومي تُظهر إصابتهم بحمّى الضنك، بجانب الانتشار الواسع للملاريا، لكن على نحوٍ أقلّ من الضنك، وفقاً للعضو. واشتكى من نُدرة في الدواء، وأنّه لا يُوجد إلا في صيدلية واحدة من بين حوالي 12 صيدلية بالمنطقة، ويتناقص يوماً بعد يوم ليصل إلى الانعدام خلال فترة قصيرة بالنظر إلى حالات التردّد، مشيراً إلى انعدام دربّات البندول في المنطقة، ونوّه إلى أنها كانت تُباع بسعر 4500 جنيه للدربّ الواحد قبل انعدامها، مع توقّعات بزيادة كبيرة في أسعارها في الأيام المقبلة.
وتنشط في المحيريبا مبادرات شبابية وغرفة طوارئ المنطقة في تجفيف البرك، وتتلقى تبرّعات بنحو دائم من مواطني المنطقة داخل السودان وخارجه، لشراء مبيدات لمكافحة نواقل الأمراض. وكشف عضو بالغرفة لمراسل «أتَـر» عن نيّتهم شراء ماكينات للرشّ الضبابي، قائلاً: «لم نرَ شيئاً من الحكومة حتى الآن، لذلك نعتمد على أنفسنا، حتى لا يموت أهلنا أمام أعيننا».
وفي محلية الكاملين، المُتاخمة لولاية الخرطوم، قال أحد أعضاء غرف الطوارئ بالمحلية، إنه من بين كل 3 أفراد، هناك فردان مصابان بحمّى الضنك، ووصَف الوضع في محليته بالخطير، في ظلّ غياب الاهتمام الكافي من السلطات المحلية. وقطَع بأنه لا يوجد منزل بالمحلية يخلو من مُصابٍ بحمّى الضنك. وكشف عن أن «دربّ البندول» يُباع في بعض المناطق بـ 30 ألف جنيه.
ويقول عز الدين أحمد الشريف، مواطن بقرية «ألْتِي»، شمال الكاملين، لمراسل «أتَـر»، إنّ أي أسرة بالقرية لو كان بها سبعة أفراد، فهناك أربعة أصيبوا بالوبائيات، والثلاثة الباقون ينتظرون دَورهم؛ وكشف عن أن تكلفة علاج الفرد الواحد تتجاوز مبلغ 100 ألف جنيه، وهناك بعض الأدوية في طريقها للنفاد، خاصة المحاليل الوريدية.
وفي مستشفى منطقة «كاب الجداد» غربي الكاملين، رصد مراسل «أتَـر» تسجيل عدد كبير من حالات الإصابة بحمّى الضنك، ويعاني المَرضى من أوضاع مأساوية بالمستشفى، حيث ينعدم العلاج ويفترش كثيرٌ منهم الأرض أو يرقدون على أسرّة مهترئة. وتمنع إدارة المستشفى التصوير وتضع قيوداً على تصريح الأطباء والممرّضين بأي معلومة عن معدّل الإصابة بالمرض.
وفي وحدة المِعيلِق الإدارية بمحلية الكاملين، انطلقت حملة أهلية لجمع التبرّعات من أبناء المنطقة بالداخل والخارج لسدّ النقص الحادّ في المعينات اللازمة لعمليات مكافحة نواقل الأمراض.
وقال مدير طبّي في أحد مستشفيات محلية المناقل لـ«أتَـر» إنّ الوضع كارثيّ، وإن حالات التردّد تتراوح بين 30 و40 حالة في اليوم بالمستشفى الذي يعمل به، وإن 70% منها حالات اشتباه أو مؤكّدة بحمّى الضنك. ونوّه إلى أن هذه الفترة من كلّ عام تشهد مستويات عالية من الإصابات، لأنّ موسم الخريف وتساقط الأمطار يشكّل بيئة خصبة لنواقل الأمراض للتكاثر. بَيد أنه كشف أنّ هذا العام هو الأسوأ طوال فترة عمله في مستشفيات الجزيرة التي قاربت 20 عاماً. وأخبر بإجرائهم إحصائية عشوائية، توصّلوا من خلالها إلى أن 80% من المواطنين في منطقة وسط المناقل مصابون بأعراض مرَضية لما سمّاها «ثلاثية الضنك والملاريا والكوليرا».
ازدهار السوق الموازي

في مقابل الارتفاع الكبير في عدد الإصابات بمختلف الأمراض، ارتفعت أسعار الأدوية على نحوٍ بالغ في الصيدليات. وكشف مصدر مطّلع من داخل وزارة الصحة بالجزيرة لـ«أتَـر»، أن مجموعة من المحاليل الوريدية «دربّات البندول» وصلت إلى وزارة الصحة الولائية، لتوزيعها مجّاناً على المرضى، من منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ووجدت طريقها إلى السوق الموازي من داخل مخازن الإمدادات الطبية التابعة للوزارة، وتُباع بأسعار تتراوح ما بين 7 و 10 آلاف جنيه. وأخبر المصدر، الذي طلب حجب هويّته لحساسية موقعه في الوزارة، أنّ مطالبات أتت من داخل المؤسسة بفتح تحقيق عاجل في الملف.
وكان وزير الصحة الاتحادي، د. هيثم محمد إبراهيم، قد أكّد أنه ما من فجوة دوائية في البلاد، مُشيراً إلى أن المحاليل الوريدية و «دربات البندول» متوفّرة داخل المستشفيات وتُصرَف مجّاناً للمرضى، وكشف عن وصول 300 ألف دربّ بندول، من المتوقّع أن تُسهم في إنهاء أزمة السوق الموازي والسمسرة، وفقاً لما قال.
وحذّرت «ن. ع»، صيدلانية تعمل في إحدى صيدليات محلية الكاملين، في حديثها لمراسل «أتَـر»، من أنه لو استمرّت الأوضاع على هذا النحو، فإنّ كارثة ستحلّ بمنطقتها، ودلَّلَت على خوفها بما رأته من نُدرة في الدواء وجشع التجّار.
والتقى مُراسل «أتَـر» بمواطنة في سوق أبو عشر، تبحث عن «دربّ بندول» لأبنائها المرضى بحمّي الضنك، في رحلة بحث استمرت أربعة أيام، وعثرت عليه بـ«واسطة» كما قالت، ودفعت مقابله 21 ألف جنيه، وكشفت عن أن كلفة علاج اثنين من أبنائها حتى الآن، فاقت 530 ألف جنيه، وقالت: «لولا أخي بخارج السودان، لما استطعتُ علاجهم».
وأخبرت المواطنة «س. م»، من ألْتِي، أنها اشترت دربّ «بندول» بمبلغ 10 آلاف جنيه، بينما كان سعره قبل الأزمة الحالية 3.5 آلاف جنيه. وكشفت عن ظهور عمليات بيع في السوق الموازي من داخل بعض المستشفيات، إذ يُباع الدواء في المنازل أو في محلات بالسوق بسعر يفوق أضعاف السعر الرسمي.
وفي سوق المحيريبا، بوسط الجزيرة، وفي ركن قصيّ في طرف السوق، وفي عزّ شمس نهاية الخريف الحارقة، لاحظ مراسل «أتَـر» شخصاً معروفاً في المنطقة، وهو يفترش الأرض، وعلى جوالات مهترئة، يعرض أنواعاً من العقاقير ومسكّنات الألم، ويصيح بأعلى صوته: «شيل دواك، شيل دواك، سعرنا الأرخص في السوق». وبين من ينظر لهذا الأمر ساخطاً ومتحسّراً على انهيار النظام الصحي، وبين آخر يُسرع لأخذ وصفته الطبية بسعر متدنٍّ، يمضي هو غير آبه، يساوم هذا، ويبيع لذاك، ويردّ بـ«يفتح الله» على آخَر. ويقول السكّان إن هذه الأدوية كانت مخزّنة منذ أيام سيطرة الدعم السريع على الولاية في مخازن بأحد أحياء مدينة تمبول شرقي الجزيرة، ووصلت إلى منطقة المحيريبا في ذلك الوقت، عن طريق التجار الذين كانوا يهربونها إلى مناطق مختلفة في الجزيرة، وتُعرَض الآن استغلالاً للحاجة وزيادة الطلب على الأدوية مع انتشار الأمراض.
نقلا عن اتر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى