حراك عواصم العالم
عبد الرحمن الغالي
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
قال تعالى : (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وقال صلى الله غليه وسلم: (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.)
وقال أبو تمام:
ليس الغبي بسيّد في قومه *** ولكن سيّد قومه المتغابي
(2)
حراكٌ محموم تشهده عواصم العالم والإقليم محوره الشأن السوداني، توقعناه ونبهنا له، وقلنا أن تغيّر ميزان القوى العسكرية سيجعل العالم ودوله العظمى تتحرك.
فمنذ بداية الشهر الحالي وقعت أحداث كثيرة ومهمة وحدثت تطورات داخلية وخارجية مهمة. لم أغفل عنها ولكني كنت مهموماً بمسألة أراها أهم كثيراً من التحركات السياسية علي المستوى الفوقي وهي قضية رتق النسيج الاجتماعي والمحافظة على ما تبقى منه فتواصلت مع مكونات قبلية مهمة سعياً لبلورة موقف سوداني من قادة القبائل والمجموعات لمحاصرة الحرب وحصرها في السياق السياسي ومنع انتقالها لصراع مجتمعي وسأكتب عن ذلك بعد نهاية هذه الحلقات إن شاء الله.
من تلك الأحداث السياسية التي سأعلق عليها تباعاً:
1) اجتماع الهيئة العليا لتنسيقية تقدم 2- 4 أبريل 2024 أديس أبابا (انتهى باصدار بيان ختامي ورؤية لإنهاء الحرب)
2) المؤتمر الدولي الإنساني للسودان ودول جواره 15 أبريل 2024 باريس. ( بدعوة من فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوربي) وانتهى باصدار ثلاث وثائق : بيان ختامي من الجهات الداعية : فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوربي وإعلان مباديء من وزراء خارجية وممثلي الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، وملحق بالتعهدات المالية.
3) ندوة ( سمنار ) المجتمع المدني السوداني 15 أبريل 2024 باريس. ولم تخرج ببيان لإختلاف الرؤى.
4) اجتماع مجلس السلم والأمن الإفريقي 18 أبريل 2024 والذي خرج ببيان ختامي
5) ورشة جنيف 19 أبريل 2024 ( بدعم سويسري فرنسي ألماني)
6) ورشة هلسنكي بدعوة من الاتحاد الأوربي.
وسنتعرض إن شاء الله لإيجابيات تلك التحركات وننبه لسلبياتها ومزالقها فإن البلاد لا تتحمل مزيداً من الأخطاء القاتلة .
وسأبدأ اليوم حسب الترتيب الزماني باجتماعات الهيئة القيادية لتنسيقية تقدم
الحلقة الأولى: اجتماع الهيئة القيادية لتنسيقية (تقدم) بعنوان:
نظرات في رؤية تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية ( تقدم) لإنهاء الحرب
(1)
انعقد اجتماع الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في أديس أبابا في الفترة من 2 -4 أبريل 2024. أصدر الاجتماع بياناً ختامياً وأرفق معه رؤيته لإنهاء الحرب.
انعقد الاجتماع وقد مرت أحداث بعد اجتماع (تقدم) مع قائد الدعم السريع في 2 يناير 2024 مصحوبة بتحديات واجهت جبهة تقدم منها:
1) تزايد انتهاكات الدعم السريع في قرى الجزيرة ومدنها.
2) عدم اطلاق سراح الأسرى والمحتجزين لدى الدعم السريع حسب اتفاق أديس أبابا.
3) تكوين إدارة مدنية ( من بعض عضوية تقدم) بواسطة الدعم السريع في الجزيرة متزامنة مع الانتهاكات الواسعة.
4) قرار الدعم السريع إنشاء سلطة قضائية ونيابة عامة وشرطة وإدارة أهلية في جنوب الخرطوم وإصدار اللجنة التسيرية لنقابة المحامين بياناً يقضي ببطلان ذلك.
5) لقاء وفد الاتحاد الافريقي بممثلين للمؤتمر الوطني في القاهرة وتصريح المبعوث الامريكي ولقاؤه أيضاً بممثلين للمؤتمر الوطني.
6) التململ الواضح في مكونات ( تقدم) حيث تقدمت مكونات عديدة بمذكرات واحتجاجات منها بحسب حديث الدكتور بكري الجاك (الجبهة الثورية ولجان المقاومة والأجسام النسوية) وكذلك نقابة الصحافيين والحارسات وتجمع العاملين بالنفط (حسب البيان الختامي للاجتماعات). وكان حزب الأمة قد تقدم بمذكرة لرئيس (تقدم) عند زيارته القاهرة في مارس المنصرم انتقد فيها ( تقدم ) وطالب باصلاحها وأمهل الهيئة القيادية أسبوعين للرد على مذكرته ملوحاً باتخاذ موقف في حال رفض اصلاحاته.
وكانت أجسام نسوية ومنظمات وشخصيات قد تقدمت بمذكرة احتجاجاً على أقوال الدكتور علاء الدين نقد أحد الناطقين الرسميين باسم (تقدم) أنكر فيها حدوث اغتصابات مما أدخل جبهة ( تقدم ) في حرج بالغ اضطرت معه للرد على المذكرة متبرئةً من موقف ناطقها الرسمي. ولاحقاً تم التخلي عن الناطقين الرسميين وتعيين الدكتور بكري الجاك ناطقاً رسمياً باسم التنسيقية.
وكان المكتب القيادي للتجمع الاتحادي المعارض ( وهو تجمع يضم أحزاباً وتيارات اتحادية عديدة) قد اتخذ قراراً باعلان بطلان إنضمامه (لتقدم) ورفض الاعتراف بإعلان (تقدم) مع الدعم السريع وجمّد عضويته في (قحت). هذا غير الصراعات ذات الصبغة الشخصية والمؤسسية داخل تقدم. وكان الدكتور بكري الجاك قد ذكر أن أهم الخلافات داخل (تقدم) تتركز حول مسألة تمثيل الأجسام المختلفة وحول آليات اتخاذ القرار – داخل تقدم نفسها – إضافة لاختلاف الرؤى).
7) فتحت الحكومة بلاغات في قيادات من ( تقدم) ومناصريها بتهم متعددة.
(2)
أصدر الاجتماع بياناً ختامياً مصحوباً برؤية لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة السودانية. جاء الاجتماع متأثراً بهذه المعطيات والأحداث وحاول مخاطبتها والرد عليها. وسنحصر فيما يلي تعليقنا على رؤية إنهاء الحرب.
جاءت الرؤية تحت العناوين الآتية : تمهيد – مبادئ وأسس الحل السياسي الشامل – وقف العدائيات والمساعدات الانسانية – العملية السياسية للحل السياسي الشامل – قضايا العملية السياسية – المنبر التفاوضي – تقييم إعلان أديس أبابا ( مع الدعم السريع) – خاتمة.
من إيجابيات (رؤية إنهاء الحرب) اعترافها بالقصور والأخطاء التي صاحبت إعلان أديس أبابا ( الذي وقعته مع الدعم السريع)، وعلى الرغم من عدم تحديد الرؤية لتلك الأخطاء حينما تحدثت عن تقييم الإعلان، إلا أنها ذكرت في أماكن أخرى نصوصاً تشير لتلك الأخطاء أو تصحح الموقف خلافاً لنصوص الاعلان منها:
- ما جاء في التمهيد عن مخاطر تشكيل الادارات المدنية تحت سيطرة الدعم السريع على الوحدة الوطنية وأن ( تقدم) تحثه على الابتعاد من اتخاذ مثل هذه القرارات “يشمل هذا أيضاً الجيش” ولكن الاستشهاد هنا يشير للاعتراف بخطأ إعلان أديس الذي نص على (تشكيل إدارات مدنية بتوافق أهل المناطق المتأثرة بالحرب، تتولى مهمة ضمان عودة الحياة لطبيعتها وتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين).
- وجاء النص على ضرورة خروج المنظومة الأمنية والعسكرية من النشاط السياسي والاقتصادي مصححاً لإعلان أديس مع الدعم السريع الذي دخل مع الدعم السريع في قضايا سياسية مثل أسس تأسيس الدولة السودانية ونظام الحكم والفيدرالية وعلاقة الدين بالدولة وإصلاح المؤسسات المدنية إلخ. وسمح له بتكوين إدارة مدنية في مناطق سيطرته.
هذا ما جاء مصححاً لبعض أخطاء إعلان أديس مع الدعم السريع، ولكن هناك ملاحظات أخرى في الرؤية أهمها:
- التحسُّر على أن الأوضاع الدولية والإقليمية لا تسمح بتدخل دولي واسع تحت البند السابع. وهذا وضع في تقديري خاطئ إذ المطلوب أن يتم السعي للحل السوداني السوداني بتسهيل دولي واقليمي مثلما جاء في الرؤية نفسها بدلاً من طلب تدخل عسكري دولي. وتحسُّر (تقدم) ليس تخميناً وانما جاء بحسب كلماتهم ( أن الواقع الاقليمي والدولي لا يبشر بامكانية تدخل دولي واسع على غرار البند السابع لحماية المدنيين وردع عنف أطراف الحرب ).
- ومن أخطاء الرؤية الحديث عن بناء وتأسيس جيش قومي مهني من كل القوات العسكرية ( القوات المسلحة والدعم السريع وحركات الكفاح المسلح) وليس عن عملية دمج ولا عملية دي دي آر DDR ( نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج) بل إنشاء جيش جديد من مكونات على قدم المساواة وهذا ليس فقط خطأ وإنما تجاوزه الواقع.
- ورغم اشتمال الرؤية نظرياً على نقطة مهمة وصحيحة وهي ضرورة الحل السياسي الشامل ( وأن الخيار الأمثل هو الحل السياسي الشامل عبر عملية تفاوضية تشتمل على عملية سياسية) حسب تعبير الرؤية إلا أنها عملياً قد أجهضت مبدأ الشمول بتحفظين:
الأول أنها أعطت نفسها حق الفيتو ضد ما أسمته إغراق العملية السياسية وهو نفس الحق الذي كان من أسباب إجهاض الاتفاق الإطاري حينما قبلت قوى الاتفاق الاطاري دون منطق معين قوى سياسية ورفضت أخرى تشترك معها في نفس التوصيف ( قبول أعضاء من نظام الإنقاذ البائد: المؤتمر الشعبي وفصيل محمد الحسن الميرغني ورفض الاتحادي الأصل فصيل الميرغني وإبنه جعفر، وقبول داعمي انقلاب 25 أكتوبر فصيل الطاهر حجر وفصيل الهادي إدريس ورفض فصيل مناوي وفصيل جبريل). الصحيح أن تشمل العملية السياسية كل القوى السياسية الموجودة.
أما التحفظ الثاني فكان على إشراك المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في العملية السياسية. وقد أفردت الرؤية حيزاً كبيراً لهذه القضية ويبدو أن السبب في ذلك هو رغبة المبعوث الأمريكي في اللقاء الجامع الذي لايستثني المؤتمر الوطني أو عناصر معتدلة منه وكذلك لقاء الاتحاد الافريقي. ولكن مهما يكن من أمر فيمكن ملاحظة الآتي على موقف رؤية ( تقدم) من هذه القضية:
1) أشارت الرؤية إلى ( أن مسألة وقف الحرب بالنسبة لنا كقوى رافضة لها من حيث المبدأ لا يمكن أن يتأتى دون الحديث مع أطرافها وإلا فالخيار هو أن تصبح أحد أطرافها.) جاء هذا في معرض دفاعها عن لقاء الدعم السريع رغم انتهاكاته.
2) وقالت الرؤية عن الحرب ( والمؤكد أنها لم تندلع للدفاع عن مصالح السودانيين بل أشعلها حزب المؤتمر الوطني المحلول ومليشياته) وبغض النظر عن مخالفة ذلك لبند تشكيل لجنة تحقيق حول من أشعل الحرب والوارد في إعلان أديس أبابا مع الدعم السريع، فإن ذلك يستدعي أن يكون المؤتمر الوطني أحد أطراف الحوار لوقف الحرب طالما أنه أشعلها وطالما أن ( تقدم) تعللت في لقاء الدعم السريع بأنه أحد أطراف الحرب.
3) ثم أن الرؤية وقعت في خطأ مزدوج حينما حددت بنفسها شروطاً أربعة لقبول دخول المؤتمر الوطني في العملية التفاوضية ثم جاءت لتقول ( يجب ألا يسمح لحزب المؤتمر الوطني بالمشاركة في العملية السياسية وحسب بل يجب أن لا يشارك في الفترة الانتقالية حتى وان استجاب إلى هذه المطالب وأجاب على هذه الاسئلة).
الخطأ المزدوج هو: أولاً لأن الرؤية ألزمت نفسها بالجلوس مع أطراف الحرب وبررت ذلك بأنه لا يمكن إنهاء الحرب دون مشاركة أطرافها والرؤية قد أقرت أن المؤتمر الوطني هو من أشعل الحرب. والخطأ الثاني أنها رهنت قبول مشاركة المؤتمر الوطني بالاستجابة لأربعة شروط وضعتها (تقدم) ثم عادت لتقول أنه حتى لو استجاب للشروط فلا تقبل باشراكه في التفاوض لإنهاء الحرب.
صحيح أن قبول الحل السياسي الشامل بمشاركة المؤتمر الوطني قضية خلافية وصحيح أن هناك مرارات لدى قطاعات واسعة من الشعب السوداني من المؤتمر الوطني وسنوات حكم الانقاذ ولكن إنهاء الحرب وضمان بقاء الدولة مقدم على المرارات الشخصية أو السياسية، فالسودان الآن مهدد بتمزقه وانهياره واستعماره وعلى أحسن الفروض مهدد بانقسامه وكل هذه قضايا وجودية تتطلب نفوساً متسامية وعقولاً كبيرة ولا تتحمل ضيق أفق الناشطين ولا متابعة الغبائن وهوى النفوس دعك من الجشع والخيانة.
(3)
ما زال الأمل أن تتحرر ( تقدم) من إصرار بعض مكوناتها: لاسيما الأقلية المهيمنة المتنفذة وتتجه نحو الإصلاح المطلوب الذي تطالب به أغلبية مكوناتها التي ذكرناها.
وما زال الأمل أن تتقدم خطوة في إعلاء قيم التسامح والتنازل والقبول بالآخر في الصف الديمقراطي أولاً وفي الصف الوطني عامة.
وما زال الأمل قائماً أن تدرك المخاطر الوجودية التي تهدد السودان.
وما زال الأمل أن تضع يدها على نبض الشارع الذي ظلت تبتعد عنه يوماً بعد يوم قبل أن يفوت الأوان ولات ساعة مندم.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ونواصل إن شاء الله تعالى.
عبد الرحمن الغالي
9/4/2024