حدودٌ من دم: حين تأكل الرمال الخرائط

د. عبد الناصر سلم حامد
خبير في النزاعات المسلحة وإدارة الأزمات – القرن الإفريقي
⸻
قبل أكثر من قرن، لم يكن الرمل حدًّا يفصل بين السودان وتشاد وليبيا. كانت الصحراء الكبرى، بما فيها دروب دارفور، فضاءً مفتوحًا لقبائل رعوية وقوافل تجارية تتحرّك حيث يهطل المطر وتحكمها أعراف الجوار. كان الناس يعرفون أن لا أحد يملك الصحراء، وأن الماشية والماء هما قانون العبور. نشأت أسواق عابرة للحدود من الملح والصمغ والماشية، تُبرم فيها الصفقات في ظلّ شجرة، وتحميها سمعة القبيلة وسمعة الشيخ.
ثم جاءت الخرائط بخطوط مستقيمة. وحين وزّع الاستعمار أرضًا لم يفهمها إلا أهلها، ظنّ أن المسطرة ستُخضع الرمال. لكن تلك الخطوط لم تكن سوى حبكة ورقية بين قوى عظمى تساومت فوق قبائل بدوية لا تعرف معنى الجواز أو الطابع الرسمي. ظلت القبائل تتحرك معها مواشيها وتجّارها كما تشاء، تحرسها البنادق أحيانًا والأعراف في الغالب.
بعد الاستقلال، كان يمكن أن تصبح دارفور أكثر من هامش. لكن شيئًا ما كسر الوعد. ظلّت الحكومات المركزية تكتفي بمد الخطاب من الخرطوم إلى الأطراف ثم تعود بلا أقدامٍ على الأرض. كثير من زعماء القبائل يروون كيف كان «زمن الإنقاذ» يشتري الولاءات بصفقات الذهب، ويغضّ الطرف عن شبكات التهريب، مقابل ولاءٍ موسمي يبرّد جمر التمرد حين يشتعل.
ومع كل أزمةٍ تعيد الدولة فيها الانكماش إلى المراكز، تنفتح الأطراف أكثر. تآكلت السلطة، وصار الرمل يذكّر الجميع أن الخرائط لا تحمي أحدًا إن لم يحمه العدل والحضور الميداني. اليوم، في دارفور، تصير الرمال حدودًا من دم. لا تعترف بالخطوط القديمة، بل تعيد رسمها بمسارات التهريب التي يُديرها بشرٌ لم يعد عندهم من الدولة سوى شبح جواز سفر أو ختم منسي.
«في صحاري دارفور المنسية، حين يفرّ الناس من الموت، يجدون في رمال الحدود مقابر بلا شواهد… أو معبرًا يبيعون فيه أرواحهم.» هكذا يلخّص «علي»، شاب في الثانية والعشرين من غرب دارفور، حكاية آلاف مثله. احترقت قريته في 2023 بنيران قوات الدعم السريع، ففرّ إلى تشاد ثم انزلق إلى الجنوب الليبي. هناك صار يحمل بندقيةً لم تكن حلمًا، لكنها تذكرة عبور فوق رمال لا تحمي أحدًا. «لا أحد هنا يسأل من أين أتيت، فقط يسألون: بندقيتك لمن؟» يقولها عليّ وكأنه يلخّص فلسفة الرمال الجديدة: لا أوراق ولا ختم، فقط دم.
في تلك المسارات، يتحوّل الذهب إلى دمٍ في دورة مفتوحة. يُستخرج من باطن جبل عامر — أحد أكثر المناجم وحشيةً وفوضويةً في غرب السودان — ثم يُحمّل فوق شاحنات أو قوافل صغيرة تحرسها ولاءات قبلية أحيانًا وميليشيات أحيانًا أخرى. بعض المهربين يستخدمون طرق الرعاة القديمة، يحمونها بعرف قديم مفاده أن «من يُطعِم الرمل لا يحاسَب». لكن بين تلك الأعراف وبين سوق المرتزقة مسافةٌ حادة: هنا يصير التهريب استمرارًا للعيش، وهناك يصير تجارةً في الدم.
يُقدّر تقرير «هيومن رايتس ووتش» (2024) أن تحالف بعض القبائل مع قوات الدعم السريع رسّخ خطوط التهريب، وربط النزاعات السودانية بخطوط التهريب نحو ليبيا ومنطقة الساحل. أمّا مكتب الشؤون الإنسانية (OCHA) فأشار في تقريره (يونيو 2025) إلى أكثر من ٩ ملايين نازح داخليًا، كثيرٌ منهم يعبرون في نفس الدروب التي تمر فيها شاحنات الذهب والسلاح. الفقر والتهجير لا يغلقان المسارات بل يفتحانها أكثر.
هنا تظهر مفارقة الرمال: نفس القبائل التي كانت تعبر بحرية قبل قرن لتبيع ماشيتها، تعبر اليوم لتتاجر بما تبقّى من شبابها. شيوخٌ يحرسون خطوطًا يرونها حقًا تاريخيًا، بينما الميليشيات تحوّلها إلى سوق للدم والذهب. قال لي رجل من أطراف شمال دارفور في مكالمة قبل أشهر: «حين أترك إبلي تسرح في فزان أو الكفرة، أفهم معنى الحرية. لكن حين أرى الشباب يُهرَّبون بالسلاح نفسه، أعرف أننا لم نعد قبائلنا القديمة.»
ما يجري هنا ليس فصلًا مغلقًا في كتاب التاريخ. فحين سقطت ليبيا في 2011 لم تختفِ الأسلحة بل أغرقت الطوارق في مالي والنيجر. وحين انهارت الصومال لم تنتج جزرًا داخلية فقط بل فتحت شواطئ جديدة للقرصنة عطّلت التجارة البحرية. يقول تقرير المفوضية الأوروبية (2023): «تدفّق الأسلحة من السودان نحو جماعات الساحل الإفريقي زاد بمعدل ٣٠٪ مقارنةً بما بعد سقوط القذافي.» الانهيار لا يعرف خطوطًا، بل ينساب حيث تعرف الرمال طريقها.
اتفاقية «نجامينا» (2006) بين السودان وتشاد لم تنقذ شيئًا. بقيت حبرًا بلا سياج. فلا رقابة ميدانية ولا تنسيق مع الجنوب الليبي الغارق في فراغ أمراء الحرب. حتى الاتحاد الإفريقي، كما تقول «مجموعة الأزمات الدولية» (2025)، لا يملك حتى الآن أدوات ردم حقيقية لهذه الثقوب المفتوحة. كل ما يحدث أن الخرائط تأكل نفسها — شريطٌ من الرمل يتّسع ويبتلع كل ما يجاوره.
عليّ الذي عبر ثلاث دول ببندقيته ليس حالةً نادرة. خلفه جيلٌ كامل يرى الخرائط أوراقًا تتبدّد أمام رياح البنادق. بعضهم يفرّ، بعضهم يحرس طرق التهريب، وبعضهم يُباع كمرتزق عند تخوم الجنوب الليبي. لا يملك أحد في هذا الحزام الصحراوي رفاهية الاختيار: إمّا أن ينهش الرمل قريته، أو أن يصير هو نفسه حارسًا لرملٍ لم يعد ملكًا لأحد.
إذا ظلت رمال دارفور فضاءً مفتوحًا، فستظل هذه «الحدود من دم» مجرد عناوين صغيرة على خارطة أكبر تنهار تحت أقدام جماعات تعرف كيف تمرّ بين الثقوب. النزيف لا يحتاج إلى توصيات جاهزة ولا خطب. يحتاج فقط إلى عينٍ ترى الرمال وهي تبتلع الخرائط وتحوّل أبناءها إلى وقودٍ لحروب الآخرين. ربما لا يحتاج عليّ لخريطة ليعرف حدوده — يكفيه ظل بندقيته وحفنة رمال تأكله قبل أن يأكلها. وإن تُرك جيله يتكاثر على حوافّ الرمل بلا أفق، فلن تكون هذه الرمال حدودًا لجغرافيا فقط… بل بوابة لجيوشٍ تائهة لا توقفها الخرائط ولا تحمي منها المسطرة



