عقيد بحري ركن (م) دكتور أسامة محمد عبدالرحيم
درج السودان على الإحتفال بعيد الجيش في الرابع عشر من أغسطس من كل عام، وهو يوم ذكرى استلام الفريق/ أحمد محمد لقيادة الجيش. يمر العيد هذا العام والجيش السوداني قد بلغ أشده و بلغ سبعين سنةً، والحرب التي يخوضها الجيش ضد مليشيا التمرد تكمل شهرها السادس عشر.
* أربعمائة وسبعة وثمانون يوماً من القتال المستعر والجيش السوداني يزداد ثباتاً وصموداً ويسطر أزهى وأنصع صفحات المجد والكرامة بمداد من الدم والعرق.
* لقد تميزت مؤسسة الجيش السوداني بالتنوع في الاعراق والسحنات وتعدد الألسن واختلاف اللهجات وظلت هذه المؤسسة تجمع في احشائها كل قبائل السودان ضباطاً وجنوداً، قادةً و مرؤوسين، مجسدةً صورة زاهية للوطنية والقومية رغم عمل أعداء السودان واصحاب الأجندة على اثبات خلاف ذلك تضليلاً و تزييفاً، كما ظل الجيش السوداني صامداً في وجه العدوان و التآمر طوال تاريخه رغم تعاقب واختلاف الأنظمة السياسية الحاكمة، يكافح وينافح من أجل وحدة البلاد وسلامة وأمن شعبه.
* ان كل ما سطره هذا الجيش منذ تأسيسه في العام 1925هو كتاب للتأريخ المجيد وسفر من اسفار العزة والشرف ، لكن تظل لوحة نضال حرب الكرامة التى غشيت البلاد، هي كتاب لا يزال مفتوحاً يوثّق للبطولة والفداء في كل يوم.
* وكما انتظم الجيش السوداني في هياكل تنظيمية وتشكيلات القتال وألويته براً وبحراً وجواً، كذلك زينت يوميات جهده وجهاده أرتال شهداء وجرحى منذ يوم مولده وحتى الآن بلا انقطاع.
* عمّن نكتب و عمّن نتحدث والجيش السوداني مترع برموز الفخار والتضحية، شخوص تعيش بيننا وتمشي بالفضيلة والبسالة والجسارة من أجل غدٍ مشرق للسودان ومن أجل مستقبل افضل لشعبه.
* و لان الجيش انما هو مؤسسة نظامية من مؤسسات الدولة تحكمها و تضبطها ضوابط الدستور و القوانين، فتجدها لذلك تتبادل قيادتها و اجيالها بطريقة و توقيتات محكومة و منتظمة، قادها خليل و عبود و النميري و البشير و غيرهم و غدا يذهب البرهان و صحبه و لكن تبقى مؤسسة الجيش راسخة الاقدام و مشرئبة الاعناق عالية الجباه و الهمم تناطح الثريا كبرياءً و عظمةً تزهو ببنيها الابطال متوشحة بالوطنية و الضمير تتناقل الويتها جيلا بعد جيل.
* ان اعظم ما يمتلكه الجيش السوداني ، هو مورده البشري الذي تربى على القيم والأخلاق والجسارة والإقدام، إنّ جيشاً بمثل هؤلاء الجنود الأوفياء من الأفراد والقادة العظام من الضباط لن تفتته المكائد والمؤامرات، بل تزيده قوةً وصموداً وصلابةً.
* إنّ العقيدة العسكرية والعقيدة القتالية للجيش السوداني تستند على إرث اخلاقي وحضاري عميق ومحترم مستمداً من الأعراف والتقاليد السودانية السمحة والدين القويم، ظلت هذه العقيدة تنظم عملية القتال و تجيب على السؤال لماذا نقاتل؟ و كيف نقاتل؟ بجملة من الترتيبات والاجراءات والتدابير و تنتظم على اساسها عملية التدريب والتسليح وتنظيم القوات المسلحة وتحكم سلوكها في حالتي السلم والحرب. لذلك تجد انه شتان بين من يفر إليه المواطن طلباً للأمن والأمان والإستقرار والسلام وبين من يفر منه المواطن خوفاً من القتل والسحل والرعب والسرقة والنهب والاغتصاب و الاذى في المال والنفس والثمرات وصاحب العقل يميز.
تأريخيا و بالنظر لنشأة الجيوش، و مهامها في الدفاع عن الأوطان والحماية للحدود والشعوب والمقدرات والمكتسبات، نجد ان هذا الأمر كان موكولاً في السابق للشعب كله، حيث تستنهض الهمم والعزائم و توجه الطاقات للقيام بهذا الأمر ثم مع تطور مفهوم الدولة ظهرت الجيوش النظامية بشكلها الحديث والمتعارف عليه، ويظل كل ما برز تهديد يواجه اي امة، ان يبدأ الجيش في القيام بما نص عليه الدستور ونظمته القوانين للقيام بواجب الحماية والدفاع ولكن متى ما استمر العدوان وتطاول أمده واتسع نطاقه بمثل ما يحدث في السودان منذ 15 ابريل 2023، من حشد و تداعي للعدوان اقليمياً و دولياً تسعر نار الحرب و تشعل أوراها بلا انقطاع خدمة لاهداف سياسية وعسكرية، حيث يبقى لزاماً على الدولة ضحية العدوان أن تستنهض همم بنيها تعبئةً ومقاومةً اصطفافاً خلف جيشها ومعه كتائب وألوية شعبية وهو عين ما يحدث الآن ويزيد ويتحسّن يوماً بعد يوم لحين اكتمال النصر.
في عيده السبعين، و بعد مرور كل هذا الوقت من القتال منذ الخامس عشر من ابريل من العام 2023 (اي بعد مرور أربعمائة وسبعة و ثمانون يوماً) يمكن ان نجمل ونؤكد هذه الخلاصات:
* المؤكد ان الجيش السوداني قد نجح في تدمير القوة الصلبة لقوات العدو، و التي بدأت المعركة محتشدة منتفخة مغترة وانتهت الى جماعات صغيرة متفرقة نال منها الضعف والوهن ما نال.
* ان الجيش قد نجح في محق وسحق قوات النخبة والصفوة المميزة والمدربة من قوات العدو والتي لم تنجح محاولات العدو في استعواضها بمرتزقة من خارج الحدود خاصة في تخصصات المدفعية والراجمات وتشغيل المسيرات والقنص والتي تبدو لكل مراقب انها تنحسر وتضعف بمرور ايام القتال ودورانها.
* نجح الجيش السوداني الى حد كبير في ايقاف الإمداد البشري خاصة من الاتجاه الغربي ( حيث يحاول العدو استعواض ذلك بعصابات و مجرمي الداخل).
* نجحت القيادة في حصار الداعمين الخارجيين للعدو في المنصات والتجمعات السياسية والدبلوماسية ومنظمات وهيئات المجتمع الدولي السياسية والقانونية والمحافل الاقليمية والدولية، فقل الدعم الفني واللوجستي والمالي او انحسر فضعفت المليشيا وبدأ خوارها وانكسارها.
* تحولت وتحورت مراحل المعركة، فانتقل الجيش العظيم من مواجهة قوات شبه نظامية متمردة في المرحلة الأولى من المعركة إلى مواجهة وملاحقة مليشيا في المرحلة الثانية، ثم تحول الأمر في مرحلته قبل الأخيرة الى مطاردة والاشتباك مع مجموعات وعصابات متفلتة ومجرمة مختلطة ببقايا مليشيا غير متجانسة.
* الآن الجيش يعمد إلى تجفيف مستنقعات اسنة متفرقة هنا وهناك من راكد مياه عصابات ومليشيا التمرد المجرمة والتي تنتشر كالسرطان في عدد من اتجاهات ومناطق البلاد.
* بدأ عدد من دول الجوار والاقليم سلوك طرق وسبل العودة الى الدبلوماسية الناعمة والخجولة لاستعادة علاقاتها او استرجاع مواقفها البائسة او حفظ ما تبقى من ماء وجهها امام شعب السودان وحكومته، و في ذلك مؤشر لكسب المعركة على الارض. حيث يبدو لكل مراقب ان دوائر العدوان قد اقتنعت بخطأ مسلكها وضياع جهودها، لذا لجأت للسبل الدبلوماسية والسياسية الناعمة عوضاً عن الإستمرار في نهجها الحربي العنيف الذي أوردها موارد السقوط الأخلاقي امام مجتمعاتها المحلية والدولية.
* نجح الجيش السوداني كذلك في تحويل قوات العدو الى مجموعات مناطقية قليلة العدد ضعيفة العتاد اساسها القبيلة بالمنطقة المعنية ويقودها قادة محليون بزمام من القهر والإكراه.
* كذلك تمكن الجيش من كسر شوكة وتفتيت عضد مليشيا العدو بنجاحه في تحييد عدد من قادة الميدان لدى العدو. في المقابل تجد ان الجيش حتى لو استشهد نفر من قياداته فيظل مؤسسة قادرة على الاستعواض القيادي المستمر ويأتي ذلك بحكم نظامه العسكري المحكم والذي بإمكانه توليد قادة جدد في كل حين يخلفون سلفهم في سلاسل القيادة بطريقة نظامية و منهجية ومرونة دونما أي خلل او عطب قد تحدثه نتائج القتال من إصابةٍ او استشهاد.
* كذلك نجد الجيش قد اجبر قوات العدو على التحول من نظام الهجوم بموجات بشرية وكثافة نيران الى التصادم بأعداد قليلة والإعتماد على نظام الهجمات الجوالة والتي تهاجم موقعاً ثم تتحرك للهجوم على مواقع اخر بمنطقة اخرى دونما اي حرص على التمسك بالأرض.
* انحياز قوات الكفاح المسلح الدارفورية والموقعة علي اتفاق جوبا الى صف القتال ضد المليشيا المتمردة وهي التي نجحت (في تنظيمها المشترك مع الجيش) في حماية وتحصين الفاشر وقطع خط الامداد البشري واللوجستي من خارج الحدود الغربية للبلاد واحداث فارق نوعي لا تخطئه العين.
* ثم الملاحظة الاخيرة هي انحسار وقلة الظهور الاعلامي لقياديي الصف الأول للمليشيا بسبب الضعف والخوار والتوهان في متاهة الحرب وعدم القدرة على الاستمرار وتخبط طريق الخروج بسلام من اتون المعركة طلباً للسلامة.
كذلك وإن اعدنا القراءة المجملة للمعركة بطريقة اخرى يمكن نلاحظ الآتي:
* أنّ الجيش قد تمكن من امتصاص الصدمة الأولى للقتال و استعاد توازنه في زمن مبكر.
* الجيش تمكن من انهاك القوات المعتدية واستنزافها بشرياً وعتاداً.
* ان الجيش قد تمكن من منع قوات العدو من الاستعواض وصعب عليها هذه المهمة.
* ان قوات العدو قامت بالانتشار في مساحات شاسعة دون تاثير (سيطرة)
* افتقدت قوات العدو أدوات ادارة الدولة والتحكم في المؤسسات الحكومية والحاكمة. و هذا جعلها دوماً في موقف ضعيف أمام المجتمع المحلي والخارجي.
* دبلوماسياً وسياسياً اضطرت دولة كالامارات ان تدين المليشيا بشكل واضح ومباشر وتقدمت بطلبها إليها للسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة وهذا تغير نوعي كبير وبين.
* لم يتمكن العدو من تحقيق اي من اهدافه العسكرية او السياسية في المعركة، بل ظل الخطاب الاعلامي عن هذين النقطتين متغيرا دوما منذ بداية الحرب وحتى الان.
* إنّ الجيش السودان هو شمعة هذا الوطن، و التي يجب ان المحافظة عليها مضيئة متقدة، ولا يزال الجيش آخر ملاذات الفخار والأمان في السودان منتصراً طالما ظل صامداً ثابتاً على المبادئ والقيم يدافع عن الحياض بلا انكسار ويغرس الأرض بذرة الشهداء يرويها دماً وانفساً زكية، ويظل للجيش رب يحميه من كل عدوان، من اصحاب فيل هذا العصر والذين اتوا على ظهر الحوامة التاتشر بالالاف و من كل فج قبيح، بعد ان لفظتهم البوادي والأصقاع وقذفت بهم إلى أتون المحارق ليلقوا حتوفهم على ايدي رجال شداد يؤمنون بقضيتهم ويستمسكون برسالتهم ويرمون عدوهم بقذائف الحق والايمان.
التحية في هذا اليوم لكل منسوبي الجيش السوداني العظيم، و الرحمة والمغفرة لشهدائه الأماجد وعاجل الشفاء لكل جريح ومصاب وخالص الدعوات بالنصر العاجل للجيش السوداني في ذكرى عيده السبعين.