جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة

منى أبو زيد
الصراع في الحروب لا يكون على السلطة والثروة فحسب، بل على المعنى أيضا. فالرصاص قد يحسم معركة، لكن السردية الغالبة وحدها هي التي تحسم ما سيكتبه التاريخ، ومن سيدان، ومن سينسى، ومن سيعاد إنتاجه كرمز أو كجريمة مؤجلة.
ومنذ أن عرف الإنسان الحرب، عرف معها التوثيق بوصفه سلاحا موازيا، يستخدم أحيانا لكشف الحقيقة، وأحيانا أخرى لإخفائها، أو لإعادة صياغتها بما يخدم المنتصر. بين نقش على جدار، ورواية يكتبها الطرف الأقوى، وصورة تلتقطها كاميرا مرتجفة، تتشكل الذاكرة الجماعية، ليس بوصفها سجلا محايدا، بل كساحة صراع مفتوحة لتدافع الروايات.
محاكمة الرواية وتفكيك التوثيق
في السنوات الأخيرة، لم يعد الجدل حول التوثيق مقتصرا على الحروب الدائرة أو الجرائم الجارية، بل امتد ليطال الماضي نفسه، بوصفه ساحة صراع مفتوحة على إعادة السرد، والتقييم، وإعادة بناء الذاكرة.
ولعل الجدل الذي أثارته أطروحة الدكتور يوسف زيدان حول شخصية صلاح الدين الأيوبي يقدم مثالا كاشفا على كيف يمكن للتوثيق، حين ينتقى ويعاد تأطيره، أن يتحول من أداة فهم تاريخي إلى أداة تفكيك رمزي، وربما صدمة ثقافية.
لم يتعامل يوسف زيدان مع صلاح الدين بوصفه الرمز التحريري المتماسك الذي استقر في الذاكرة الشعبية العربية، بل قدمه كسياسي براغماتي، استخدم الدين لتثبيت حكمه، وقمع خصومه، وأدار صراعاته بمنطق السلطة وليس بمنطق البطولة الأخلاقية الخالصة.
واستند في ذلك إلى روايات تاريخية قديمة، بعضها إسلامي وبعضها صليبي، وإلى فكرة مركزية مفادها أن التاريخ الرسمي كثيرا ما يكتب من موقع المنتصر، فيبرز أمجاده، ويصمت عن ضحاياه.
والإشكال هنا لا يكمن في طرح الأسئلة، ولا في إعادة قراءة الشخصيات التاريخية خارج قوالب التقديس، بل في طبيعة التوثيق الذي يستدعى، وفي الطريقة التي ينتقى بها.
فالتاريخ، حين يقرأ عبر شذرات معزولة، أو عبر مصادر جزئية منزوعة السياق، يمكن أن ينتج صورة مضادة للأسطورة، لكنها لا تكون بالضرورة أقرب إلى الحقيقة. إذ إن الانتقال من تمجيد أحادي إلى إدانة كلية لا ينتج معرفة، بل يستبدل سردية مغلقة بأخرى معاكسة، لا تقل عنها تبسيطا.
في هذا النوع من الجدل، يتحول التوثيق إلى أداة هدم رمزي أكثر منه أداة تفسير. فبدل أن يكشف تعقيد اللحظة التاريخية، يسقط الرمز كاملا، وكأن البطولة لا تحتمل التناقض، ولا تسمح بالاجتماع بين السياسة والعنف والتحرير في آن واحد. وهنا يحاكم الماضي بمعايير الحاضر، وتسقط مفاهيم الدولة الحديثة وحقوق الأقليات، على عصور كان منطقها صراعا وجوديا مفتوحا، لا يعرف التوازنات التي نطالب بها اليوم.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال تجربة يوسف زيدان في بعدها الاستفزازي فقط. فأهمية هذا الجدل تكمن في أنه أعاد التذكير بحقيقة غالبا ما تنسى. فالتاريخ ليس نصا مقدسا، ولا كتب المناقب وحدها مصادره، والتوثيق ذاته خاضع للسلطة، وللمنتصر، وللمذهب، وللظرف السياسي الذي كتب فيه. غير أن الخطورة تظهر حين لا يمتلك الجمهور العام أدوات التمييز بين النقد الأكاديمي المنضبط، وبين السردية المؤدلجة، فيتأرجح بين فقدان الثقة في التاريخ كله، أو الاحتماء مجددا بالتقديس الأعمى.
صلاح الدين في هذا السياق، يصبح مثالا كلاسيكيا على المأزق. فالتوثيق الناقص يصنع بطلا أسطوريا، والتوثيق الانتقائي قد يصنع شيطانا متخيلا، بينما الحقيقة التاريخية غالبا ما تقيم في المنطقة الرمادية بينهما. وهذه المنطقة بما تحمله من تعقيد وتناقض، هي ما يفقده التاريخ حين يختزل في معركة رمزية لا تهتم بالفهم بقدر ما تهتم بالصدمة.
وهنا تلتقي معركة الذاكرة القديمة مع معارك التوثيق في الحروب المعاصرة. فكما يمكن لأرشيف منحاز أن يصنع رمزا نقيا أو مدانا بالكامل، يمكن لتوثيق ناقص أو مسيس اليوم أن يعيد إنتاج الجريمة في المستقبل، أو أن يقلب مواقع الضحية والجلاد.
ولذلك لا تتعلق خطورة التوثيق بما يقال عن الماضي فحسب، بل بما سيقال غدا عن الحاضر، حين يترك الأرشيف لأقلام المنتصرين، أو لعدسات الجناة، أو لانتقائية تكتب التاريخ كما تشتهي، لا كما وقع.
منطلقات التوثيق وتأثيرها على أحكام التاريخ
الملوك الآشوريون وثقوا حروبهم بأنفسهم على النقوش الجدارية، والمسلات، والألواح الطينية، مصورين مشاهد السبي والذبح وقطع الرؤوس. فلم يتركوا مجالا للإنكار، وعرفهم التاريخ كما أرادوا هم أن يعرفوا. فالتوثيق قد يكون إدانة ذاتية، حتى لو كتب من موقع القوة.
أما الرواية التاريخية المعتمدة التي بلغتنا عن تدمير قرطاج فقد كتبها المؤرخون الرومان، بينما غابت الرواية القرطاجية، وقد أدى غياب التوثيق من طرف المهزوم إلى أن يكون التاريخ أحادي الصوت في تناوله سقوط قرطاج، وربما كان منحازا أيضا، باعتبار أن توثيق الطرف المنتصر لم يكن أداة كشف بقدر ما كان أداة هيمنة.
وتعد معركة كربلاء من أكثر المعارك جدلا في التاريخ الإسلامي، فقد كان لنتائجها وتفاصيلها آثار سياسية وعقائدية، فهي من الوقائع التاريخية التي كان لها دور محوري في رسم ملامح العلاقة بين السنة والشيعة عبر التاريخ.
ورغم قلة أهميتها من الناحية العسكرية، فإن هذه المعركة قد تركت آثارا سياسية وفكرية ودينية هامة، حتى اليوم. وعلى الرغم من الطابع العاطفي والديني لرواية مقتل الحسين في كربلاء، وكثرة الروايات وتنوع مصادرها “سنية وشيعية”، فإن تواترها قد جعل الحدث نفسه راسخا، فلم تنجح أي محاولة جادة لإنكار الواقعة، وهذا يدل على أن التراكم الروائي نفسه قد يصبح توثيقا مقاوما للنسيان.
أما في العصر الحديث، حين صار التوثيق كابوسا للمجرمين، فقد ثبت وقوع مذبحة سربرنيتسا التي ارتكبها جيش صرب البوسنة، رغم محاولات إنكارها، وذلك من خلال صور الأقمار الصناعية، والمقابر الجماعية، والتسجيلات الصوتية، والنتيجة كانت إدانة دولية ومحاكمات جنائية. وتلك دلالة على أهمية دور التوثيق التقني الحديث في كسر سياسة الإنكار.
في حرب فيتنام، قلبت صورة واحدة لفتاة النابالم – الطفلة الفيتنامية التي اشتهرت عالميا بصورة التقطت لها وهي تركض عارية مذعورة بعد إصابتها بحروق خطيرة جراء قصف نابالم أميركي لقريتها – الرأي العام الأميركي ضد الحرب. وبذلك تمكنت صورة واحدة موثقة من هزيمة خطاب دولة كاملة.
وفي رواندا، وصفت المجازر في البداية بأنها اشتباكات أهلية، لكن وقائع مثبتة مثل: “شهادات الناجين لاحقا، تسجيلات الإذاعات المحرضة، والمقابر الجماعية”، أدت إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية، فكان التوثيق المتأخر لتلك الحرب الأهلية أفضل من الصمت الدائم.
أما في أوكرانيا، فهنالك توثيق لحظي من خلال “الهواتف، الأقمار الصناعية، والبيانات الرقمية” سوف يجعل من الصعوبة بمكان إنكار بعض الجرائم، حتى قبل انتهاء الحرب. إذا نحن اليوم أمام عصر تحاكم فيه الجريمة وهي ما تزال ساخنة. فالحروب لا تحسم فقط في الميدان، بل في الأرشيف، وما لا يوثق ينسى، وما ينسى، يعاد ارتكابه بلا خجل.
الدعم السريع والتوثيق كدليل إدانة
لا يحتاج توثيق جرائم قوات الدعم السريع في حرب السودان إلى جهد استقصائي معقد، ولا إلى تسريبات نادرة، فجزء معتبر من هذا التوثيق صنع بأيدي جنودها أنفسهم.
كاميرات الهواتف المحمولة تحولت في هذه الحرب إلى شاهد دائم على القتل والنهب والإذلال، ليس بوصفها أداة فضح خارجية، بل كجزء من الفعل ذاته. وعليه فإن السؤال هنا لا يتعلق بوجود الجرائم، بل بدلالة توثيقها من قبل مرتكبيها. لماذا يصور الجندي فعلا يفترض أن يخفيه، ولماذا ينشر العنف بلا مواربة، وأحيانا بنبرة احتفالية؟
الإجابة تكمن في بنية المليشيا نفسها. إذ في سياق تغيب فيه الدولة، وتنهار فيه منظومة القانون، لا ينظر إلى الجريمة باعتبارها فعلا مدانا، بل باعتبارها إثبات سيطرة، فالتوثيق هنا ليس اعترافا، بل رسائل موجهة إلى المدنيين، والخصوم، والعناصر الأخرى داخل المليشيا.
للمدنيين “هذا ما نملكه من قوة، وهذا ما يمكن أن يحدث بلا مساءلة”، وللخصوم “الرعب جزء من المعركة”، وللداخل “المشاركة في العنف معيار للولاء والانتماء”. وما يظهر في هذه المقاطع ليس مشاهد القتل والخراب فقط، بل هو خطاب سياسي مكتمل يرى في الخوف وسيلة حكم، وفي إذلال الآخر كسرا لإرادته الجماعية.
لذلك تتكرر أنماط التوثيق: “قتل مباشر، تمثيل بالجثث، سحل، نهب واستعراض للمسروقات، إحراق للبيوت والقرى، وإذلال للأسرى”، كما أن بعض هذه المقاطع لا يكتفي بتسجيل الفعل، بل يضيف إليه تعليقا ساخرا أو استعراضا لفظيا.
وهذا السلوك يكشف عن تحول العنف من وسيلة إلى هوية، فالجندي لا يصور ما فعله فقط، بل يصور نفسه بوصفه فاعلا مطلقا لا يخشى عاقبة. وهذا السلوك يرتبط أيضا بثقافة الإفلات من العقاب، حين يترسخ الاعتقاد بأن لا محاكم، ولا مساءلة، ولا ذاكرة دولية فاعلة، فتتحول الكاميرا من خطر إلى وسام، ويغدو التوثيق جزءا من اقتصاد الحرب الرمزي، عوضا عن أن يكون عبئا قانونيا.
أما الانتهاكات الجنسية، وعلى رأسها الاغتصاب، فغالبا ما تمارس خارج إطار التصوير المباشر، لكنها تحضر في التوثيق عبر التهديد، والاعتراف، وشهادات الضحايا، وتقارير المنظمات الحقوقية، ما يجعلها جزءا من منظومة العنف ذاتها، حتى حين لا تظهر بصريا.
خطورة هذا التوثيق لا تكمن فقط في حجم الجرائم، بل في الاعتياد البصري عليها، فالتكرار يحول المشهد الصادم إلى صورة مألوفة، ويخدر الحس الأخلاقي، ويفتح الباب أمام صمت دولي يكتفي بالمشاهدة.
لكن هذه المقاطع، التي أنتجت بوصفها أدوات ترهيب واستعراض، تحمل في داخلها مفارقة قاسية، فهي مهما قصد بها التخويف، تشكل في الوقت ذاته أرشيفا مفتوحا للإدانة. إذ في الحروب، قد يزوّر التوثيق، وقد تمحى الأدلة، وقد ترتبك السرديات، لكن حين يصر الجناة على أن يكونوا شهودا على أنفسهم، فإنهم يتركون خلفهم ما يتجاوز اللحظة، يتركون ذاكرة لا يمكن إنكارها، حتى إن تأخرت العدالة.
التوثيق بوصفه وسيلة للنجاة
في مقابل توثيق الجناة جرائمهم بوصفه فعل قوة واستعراض، نشأ في السودان شكل آخر من التوثيق، أوجب تواترا وأشد إلحاحا “توثيق المدنيين ما يتعرضون له، وهم في قلب الخطر، وليس على هامشه”. وكاميرات الهواتف هنا لا ترفع للتباهي، بل للنجاة، ليس لتكريس الرعب، بل لمحاولة كسره، لترك أثر قبل أن يمحى المكان، أو يقتل الشاهد، أو تغلق الذاكرة قسرا.
وثق السودانيون، أفرادا وجماعات، ما جرى لهم: “القتل داخل الأحياء، الخراب الذي لحق بالبيوت والأسواق والمستشفيات، حالات الاغتصاب والانتهاكات الجنسية، التشريد القسري، النهب المنظم، وحصار المدن وبث الترويع في تفاصيل الحياة اليومية”، والكثير من هذه المقاطع صوِر على عجل، بصوت مرتجف، أو من خلف الأبواب، أو أثناء الهروب. لا تعليق، لا خطاب، فقط واقع عارٍ يصرخ دون لغة، وهذا ما يمنحه قوته “أنه لا يدعي، ولا يفسِر، بل يشهد فقط”.
لم يكن التوثيق فعلا سياسيا بالمعنى التقليدي عند المدنيين في السودان، بل فعل بقاء، ومحاولة لإثبات أنهم كانوا هنا، وأن ما جرى لم يكن “اشتباكات”، ولا “فوضى”، بل اعتداء مباشرا على حياة الناس ومصادر عيشهم وكرامتهم.
وفي حالات كثيرة، جاء التوثيق ردا على الإنكار، حين قيل إن القرى لم تحرق، ظهرت الصور، وحين شُكك في الاغتصاب، خرجت الشهادات، وحين اختزل التشريد في أرقام، ظهرت الوجوه. لكن هذا النوع من التوثيق لم يكن بلا ثمن، فكثير من المدنيين خاطروا بحياتهم وهم يصورون، وبعضهم قتل، أو اختفى، أو تعرض للتهديد، لأن الكاميرا في يد الضحية أخطر على الجناة من أي سلاح.
التوثيق المدني في السودان ليس عملا منظما دائما، ولا محميا قانونيا، ولا مؤطرا إعلاميا. إنه فعل فردي في أغلبه، هش، وقابل للضياع، لكنه مع ذلك يشكل نواة ذاكرة جمعية مضادة لمحاولات الطمس والتزييف.
وهنا لا تستخدم الصورة لإذلال الآخر، بل لحماية الحقيقة، ولا تنتج المقاطع لترويع جمهور، بل لمخاطبة ضمير عالمي غالبا ما يتأخر عن الإصغاء.
ومع ذلك، يظل هذا التوثيق مهددا مرتين، مرة بالسلاح الذي يراد له أن يسكت الشاهد، ومرة بالتشكيك الذي يفرغ الشهادة من معناها. وبين كاميرا الجاني التي تستعرض، وكاميرا الضحية التي ترتجف، تتحدد معركة السردية في هذه الحرب، وهي معركة لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض، لأن من يملك الرواية يملك المستقبل.
يوجد الكثير من الصور والمقاطع المصورة التي تمثل التوثيق الفردي المباشر من خلال توثيق اللحظة: “مقاطع فيديو صورها مدنيون أثناء اقتحام أحيائهم في الخرطوم، بحري، وأم درمان، تسجيلات صوتية لطلقات النار والقصف من داخل المنازل، تصوير جثث القتلى في الشوارع قبل أن تدفن أو تزال، صور البيوت المنهوبة أو المحترقة فور انسحاب القوات”، وهو توثيق غير مؤدلج، بلا لغة سياسية، لكنه شديد الصدق، وقيمته الأساسية أنه يسبق الرواية الرسمية، ويكسر محاولات الإنكار المبكر.
وهنالك أيضا شهادات الناجين والضحايا، “التوثيق السردي الذي ينتقل من الصورة إلى الذاكرة المنطوقة”، شهادات نساء تعرضن للاغتصاب أو التهديد الجنسي، روايات أسر فقدت أبناءها أو دمرت منازلها، شهادات نازحين عن مسارات الهروب والحصار والجوع. وهذا النوع من التوثيق أساسي في إثبات الجرائم المركبة التي لا تلتقط بالكاميرا، خاصة العنف الجنسي والتشريد القسري.
وعلى الرغم من ضعف الإمكانيات، نشأت محاولات شبه منظمة لمبادرات بشأن التوثيق المدني المنظم، “هنالك مجموعات سودانية مستقلة تجمع البلاغات والصور والشهادات، وهنالك مبادرات شبابية لتوثيق القتل والانتهاكات حسب المناطق، وتوجد قواعد بيانات أولية لحالات الاختفاء والقتل”. الأمر الذي يمثل انتقالا من الفعل الفردي إلى ذاكرة جمعية واعية، حتى وإن كانت غير مكتملة أو غير محمية.
الصحفيون السودانيون أنتجوا تقارير مصورة من داخل الأحياء المحاصرة، وأجروا تحقيقات ميدانية حول النهب والاغتصاب، وانتهجوا تتبعا زمنيا للأحداث اعتمادا على شهادات متعددة. وهذا النوع من التوثيق يجمع بين الشهادة الإنسانية والمنهج الصحفي، وبالتالي يكون له وزن أكبر في المحافل الدولية.
أما توثيق الشتات السوداني، فهو وإن كان من خارج الجغرافيا، لكنه يظل متصلا بالحدث، من خلال “جمع شهادات اللاجئين في مصر، وتشاد، وإثيوبيا، أرشفة مقاطع وصور قبل حذفها أو ضياعها، إعادة نشر المحتوى الموثق مع تحقق زمني مكاني”، وهكذا يتحول الشتات إلى حارس ذاكرة مؤقت، يحفظ بعض ما لا يستطيع الداخل الاحتفاظ به.
أما توثيق المنظمات الحقوقية والإعلام الدولي، فله صور أبطأ، لكنها أكثر تحصينا، مثل: التقارير الحقوقية عن جرائم هذه الحرب والانتهاكات الواسعة، استخدام صور الأقمار الصناعية لإثبات حرق القرى، وتقاطع شهادات متعددة لتأكيد نمط الجرائم، وهذا النوع من التوثيق هو الجسر المطلوب بين الذاكرة المحلية والمساءلة الدولية.
التوثيق طبيب الذاكرة الجريحة
في الحرب السودانية لا ترتكب الجرائم في الظل، ولا يظل العنف في الخفاء، بل يوثق، ويبث، ويعاد تدويره، أحيانا كاستعراض قوة، وأحيانا كنداء استغاثة أخير.
وبين كاميرا الجاني التي تفاخر، وكاميرا الضحية التي ترتجف، تتشكل ذاكرة هذه الحرب، بكل هشاشتها وخطورتها. فالتوثيق هنا ليس ترفا أخلاقيا، وليس ترفا صحفيا، بل معركة مصيرية على المعنى، وعلى الرواية المنتصرة حين تخفت أصوات الرصاص.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث بعد الحرب، ليس فقط الإفلات من العقاب، بل أن يكتب تاريخها على نحو معكوس، تمحى فيه الضحية، أو تدان، ويعاد إنتاج الجريمة بوصفها ضرورة، أو فوضى، أو قدرا عابرا.
لذا فإن التوثيق المستقل، المتعدد، والمتنازع، يظل خط الدفاع الأخير ضد النسيان، وضد تحويل الألم إلى هامش. وفي نهاية المطاف، الحروب لا تحاكم فقط في المحاكم، بل في أضابير التاريخ. ومن يملك قوة السرد اليوم لا يملك الماضي وحده، بل يكتب ملامح المستقبل أيضا.



