دكتور خالد التجاني النور
1
خلص تحليل المقال الثاني في هذه السلسلة عن “التنقيب في دفاتر حوليات الحرب” على خلفية الجدل الذي أثارته فعاليات مؤتمر باريس بشأن السودان منتصف الشهر الجاري، إلى أن وثيقة “إعلان المبادئ”، الصادرة عن الاجتماع الوزاري الذي ناقش الجانب السياسي للأزمة السودانية، لم تحصل على تأييد بإجماع المشاركين فيه كما كشفت ذلك قائمة الأطراف المؤيدة المدرجة ضمن الإعلان، فضلاً عن أنها لا تعبر أيضاً عن إرادة دولية محل توافق عليها حيث غاب عن المشاركة أطراف دولية فاعلة كالصين وروسيا العضوين الدائمين في مجلس الأمن، وخمس من الدول تمثل نصف عدد الدول غير دائمة العضوية.
2
لا يهدف هذا التحليل للتقليل من شأن أو قيمة إعلان باريس، مع إنه لا يعبر عن إرادة دولية جامعة حوله، ولكنه بالطبع يعبر دول ذات دور وازن وفاعل في السياسة الدولية، ولكن ينبه إلى مسألة مهمة في فهم مقاربة الأزمة السودانية من خلال هذا الإعلان المعبر عن منظور “الكتلة الغربية” في المجتمع الدولي تحديداً في تعريفها لطبيعة الحرب الدائرة في السودان ولما يجب أن تنتهي إليه، وهو ما يتضح عند تحليل سردية مشتركة للعواصم الغربية تفصح عنها سياسات وتصريحات معلنة بشأن مصير السودان ومستقبله وفق تصورات وأجندة معينة لتشكيل مستقبل السودان على نحو يضمن خدمة مصالحها الاستراتيجية في السودان ومحيطه، وذلك بالتأثير والضغوط نحو مسارات حل تقود إلى تحقيق هذا الهدف.
3
ولا مندوحة في ذلك فالعلاقات بين الدول تقوم أساساً على خدمة مصالحها الاستراتيجية، والواقع يقول إن الحديث المرسل عن مبادئ أخلاقية مجرد غطاء وأدوات ضغط تستخدم انتقائياً لتمرير هذه المصالح، ومن طبائع الأشياء أن تسعى كل دولة لتحقيق مصالحها ولو على حساب غيرها، فمدافعة مصالح الدول الأخرى لا يصلح فيها الاكتفاء بالاحتجاج عليها، بل بالعمل المدروس لموازنتها، ولن يكون ذلك مجدياً إذا لم تكن الدولة السودانية مستعدة لذلك بأدواته أيضاً وتوظيف مكامن قوتها، وهوما يتطلب أن تعرّف مصالحها الاستراتيجية ومحددات ومهددات أمنها القومي، وكيفية العمل على خدمة أجندتها بتوظيف أوراق اللعبة التي تمتلكها لتحقيق أكبر قدر من المصالح، وهذا مبحث آخر لديه اشتراطاته الموضوعية.
4
والقضية هنا تتعلق بالإجابة على سؤال محوري إن كانت رؤية وتصورات “الكتلة الغربية” وفق إعلان المبادئ هذا ستقود إلى حل حقيقي بما يتفق الأهداف المعلنة في ديباجته، وهي “إنهاء الحرب وتحقيق السلام المستدام، والحفاظ على وجود الدولة السودانية، والحرص على تطلعات الشعب السوداني”.
أم أنه يستبطن سياسات موجهة ستقود فعلياً إلى تحقيق عكس هذه الأهداف، وهو ما يعني بالضرورة أنه سيضيف المزيد من التعقيدات المؤدية إلى استدامة الأزمة السودانية، والاكتفاء بإدارتها دون أفق للحل بغرض تحقيق أكبر قدر من الإنهاك لقوى ومؤسسات الدولة بحيث يسهّل تمرير أجندة إعادة تشكيلها، في ظل حالة الاستقطاب السائدة في الساحة الدولية، لا سيما مع تزايد بؤر القلاقل في المنطقة والمحيط الحيوي للسودان الذي يحتفظ فيه الغرب بمصالح استراتيجية كبرى تتضاءل معها “نظرة الشفقة” التي يبديها تجاه المآسي الإنسانية الي يتكبدها المدنيون جراء الحرب دون إجراءات فعلية حاسمة لحمايتهم.
5
جاء “إعلان المبادئ” ببنوده الثمانية متواضع المحتوى لا يتضمن أفكاراً ولا مواقف جديدة يمكن أن تحدث أختراقاً جدياً ذا معنى من شأنه أن ينقل جهود إيقاف الحرب والبحث عن سلام إلى مربع جديد، ولا يتناسب مردوده مع الزخم الذي حاول رعاة مؤتمر باريس إكسابه أهمية استثنائية ووزناً، وهو أمر بالطبع لم يحدث اعتباطاً، ولكن مقصوداً لذاته من خلال التمسك بالسردية ذاتها التي أطلقتها غداة إندلاع الحرب بذلك التعريف السطحي للحرب بكونها مجرد “صراع بين جنرالين” الذي يردده المسؤولين الدوليين، والمساواة بين “الطرفين” دون اعتبار لواجبات ومسؤولية مؤسسات الدولة الوطنية.
مع مفارقة الاعتراف بشرعيتها والتعامل معها رسمياً من خلال تبادل العلاقات الدبلوماسية، وكما هو الحال في أهم منظمة دولية هي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ثم التغافل عن استحقاقات ذلك، مع الإصرار على عدم مراجعة فرضياتها تلك حتى بعد عام من الحرب على ضوء المعطيات الي تجري على الأرض، لا سيما الانتهاكات الواسعة الممنهجة للمدنيين من قبل “الدعم السريع” المدانة دولياً بإرتكاب “إبادة جماعية”.
6
يستحق بيان باريس وصفه ب”إعلان المبادئ المبني للمجهول”، لافتقاره للمنطق وللتماسك الموضوعي يناقض آخره أوله، ولأنه لم يدخر وسعاً في تجاهل الحقائق والوقائع، وتعمد عدم تسمية الأشياء بمسمياتها، والمغالاة في عدم تحديد المسؤوليات المترتبة على الشرائع الدولية بتعريفاتها المعتمدة للدولة ومؤسساتها الوطنية، والمساواة كيف ما اتفق بين “طرفين”، وتجاهل حقيقة أن الكتلة الغربية في المجتمع الدولي هي نفسها وتوابعها طرف أصيل في هذه الحرب عندما لعبت دوراً غير مسؤول بالتدخل عبر اللجنة الرباعية ويونيتامس في إزكاء نيران الصراع السياسي السوداني مما هيأ المسرح لإشعالها، وتتحمل مسؤولية كاملة في استطالة أمدها بالإصرار على لعب الدور نفسه، وغض الطرف عن حماية المدنيين أمام الانتهاكات التي لا يمكن إنكارها، والبقاء متفرجين لعام كامل والأزمة الإنسانية تتفاقم لسبب رئيسي هو عدم توفير التمويل اللازم لعمليات الإغاثة.
7
وبدلاً من أن يبحث الاجتماع الوزاري الأسباب الحقيقية التي أدت لفشل مبادرات جدة، الاتحاد الإفريقي، إيقاد، ودول الجوار سارعت إلى تقريظ هذه المبادرات العاجزة، والإشادة “بجهودهم الحثيثة في سبيل السلام في السودان” وعجز أن يكتب سطراً واحداً يبرز إنجازاً يستحقون عليه هذه الإشادة، ولا تشخصياً لأسباب تعثرها، بل طفقت ترمي اللوم في “التداعيات المأساوية المترتبة على تفاقم النزاع الذي يفرضه طرفا النزاع على الشعب السوداني والبلدان المجاورة”، هكذا تعميماً مخلاً وتهرباً من تحديد المسؤولية، والأكثر غرابة الزعم أن دول الجوار هي الأخرى أصبحت ضحية هذا النزاع.
ولا شك أن التنافس الإقليمي، وصراع الأجندات المصالح المتقاطعة للأطراف الخارجية، سبب رئيس في الصراع المتفاقم بين المبادرات المختلفة، وحتى بين أطراف المبادرة الواحدة، والدعوة في بيان باريس للتنسيق بين المبادرات المتنافسة ليست جديدة فقد ظلت حاضرة باستمرر دون جدوى، كما أن التلاعب وعدم الجدية الذي أظهرته مبادرة إيقاد بالذات تشير كلها إلى أن السودانيين يدفعون فاتورة مطامع خارجية في بلادهم.
8
الطريف أنه بعد بضعة أسطر فقط من الزعم بأن النزاع “فُرض أيضاً على البلدان المجاورة” جاء في الفقرة الرابعة “ونحثّ كذلك جميع الجهات الفاعلة الأجنبية على الكفّ عن توفير الدعم بالسّلاح والمعدّات إلى طرفي النزاع والامتناع عن الاضطلاع بأي عمل من شأنه مفاقمة التوترات وتأجيج النزاع” هكذا ببساطة نسى كاتبوا البيان في الفقرة الرابعة ما خطوه من الديباجة من ان دول الجوار هي ضحية للنزاع السوداني، فإذا هي بعد بضعة أسطر فقط تتهم من تصفهم “الجهات الأجنبية الفاعلة” بتأجيج النزاع عن طريق إمدادات السلاح.
8
عدم تسمية هذه الجهات الأجنبية التي تؤجج الحرب بإمداد السلاح للدعم السريع تحديداً، مناسبة أخرى لتأكيد أن إطلاق صفة “إعلان المبادئ المبني للمجهول” لبيان باريس ليست جزافاً بل تجاهلاً متعمداً لما بات في باب العلم العام لمحتوى التقرير لنهائي للجنة الخبراء التابعة لمجلس الأمن الدولي حول السودان الذي قدمته في 13 يناير الماضي حسب طلب المجلس في الفقرة الثانية من قراره 2676/2023، وحوى التقرير المنشور نتائج تحقيقاتها التي أثبتت تدفق الأسلحة والعتاد الحربي في دارفور في خرق لقرارات مجلس الأمن السابقة بشأن حظر نقل السلاح للإقليم يقول التقرير “منذ بداية الحرب، وخاصة منذ يوليو، نجحت قوات الدعم السريع في تأمين خطوط إمداد جديدة إلى دارفور ومن خلالها للأسلحة والمركبات واللوجستيات، خلال حملتهم العسكرية المتزايدة في دارفور منذ أغسطس، استخدمت قوات الدعم السريع أنواع متعددة من الأسلحة الثقيلة و المتطورة التي لم يكونوا يستخدمونها هناك من قبل”.
وجاء في التقرير “وحول خطوط إمداد قوات الدعم السريع الجديدة حددت اللجنة ثلاث طرق رئيسية لإمدادات الدعم السريع، لا تزال نشطة حتى اليوم، وكانت الرئيسية منها عبر شرق تشاد. اعتباراً اًمن يونيو، رصد خبراء تتبع الرحلات المختلفون دوراناً كثيفاً للطائرات الشحن القادمة من مطار أبوظبي الدولي إلى مطار أم جرس في شرق تشاد، مع توقفات في بلدان إقليمية مثل أوغندا وكينيا ورواندا”.
ظل هذا التقرير قابعاً منذ يناير الماضي في مضابط مجلس الأمن الدولي لم يتخذ بشأن قراراً، في دلالة آخرى على عدم جدية الدعوات الدولي لإنهاء الحرب، وأشار بيان باريس إلى مضمونه مبنياً للمجهول، ووذهب الرئيس ماكرون أبعد قليلاً دون التصريح بانتقاد من يقفون وراء تأجيج الحرب بتمويل السلاح للدعم السريع، ومع ذلك لم ينفك إعلان المبادئ من تكرار قلقه عن استمرار القتال، والانتهاكات، والمآسي الإنسانية، فكيف تتوقف إذن مع الإصرار على غض الطرف عن الأطراف الخارجية المؤججة للحرب؟.