*خالد محمد أحمد*
في خضمّ الخراب الشامل الذي خلَّفته الحرب، واهتزاز تماسك الدولة إلى حدّ الانفراط، ما زال القادة المدنيون، الذين تصدَّروا المشهد عقب الثورة، يتشبَّثون بخطابٍ سياسي جامدٍ متصلّبٍ لا يراعي حجم الكارثة، ولا يتفاعل مع التحوُّلات الجارفة التي عصفت بالواقع. كان هؤلاء في بدايات الثورة بارعين في المناورة وتبديل التكتيكات وفقًا لمقتضيات اللحظة؛ ولكن من الواضح أن جمودًا فكريًا قد أصابهم، ويكاد يشلُّ قدرتهم على الفعل السياسي الحيّ.
فماذا حدث؟ وما الذي كبَّل تلك المرونة وعطَّل تلك القدرات؟
لعلَّ أقرب الإجابات إلى منطق العقل هي أن هؤلاء القادة تملَّكهم شعورٌ بأنهم بلغوا نقطة اللاعودة؛ إذ استُهلِكت أوراقهم وشعاراتهم، وانكشفت تناقضاتهم، وخَبَت شرعيتهم في نظر الشارع.
كانت الوثيقة الدستورية أولى بوابات الانحدار؛ إذْ منحتْ الجماهير القادة المدنيين آنئذٍ تفويضًا ثوريًا لا يسنده انتماءٌ فكري، أو سياسي، أو عقدي، وكانت العروة التي تربط الطرفين هي السعي إلى تشكيل حكومةٍ مدنية “خالصة”، لا “خلاسية”. غير أن القادة المدنيين لم يمارسوا البراغماتية بوصفها فنّ الممكن ضمن إطار المبادئ، بل تورَّطوا في واقعية انتهازية انطلقت من منطق تقاسم الغنائم، لا من مبدأ إنقاذ الوطن. فُتِحت ذريعة “ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جلُّه”، و”معاطاة الموجود خيرٌ من انتظار المفقود”، فتهافتوا على الكراسي، وتقاطعت مصالحهم مع العسكر وقوات الدعم السريع، فتنازلوا عن مبادئ الثورة في سبيل سلطةٍ منقوصة، ونفخوا الروح في خصومهم السياسيين والعسكريين ومنحوهم شرعيةً لم يكونوا ليظفروا بها لولا هذا التفريط. وكانت النتيجة أن تمدَّد العسكر، وترسَّخ الجنجويد في مفاصل الدولة، بينما انحدر القادة المدنيون إلى مجرَّد ديكورٍ هشّ يعتاش على ما يُنثر عليه من فتات الصلاحيات. يومها بدأ الشارع يتململ، إذْ كان يراهن على استمرار الضغط الثوري حتى تسليم السلطة كاملةً لمدنيين يحظون بتفويضٍ نابع من روح الشارع، لا من حسابات المصالح والأجندات.
ثم توالت الإخفاقات؛ فبدلاً من أن يشكّل القادة المدنيون بديلاً حقيقيًا يُنهي عهد التمكين والاستبداد، انشغلوا بإعادة إنتاج تمكينٍ جديد يرتدي لبوسًا مختلفًا. وفوق ذلك، فإنهم كانوا قد عجزوا عن إعداد كوادر مؤهَّلة قبل الثورة لتولّي المواقع الحسَّاسة خلال الفترة الانتقالية، ولذلك لا غرابة في اتّسام عهدهم بالتخبُّط والارتجال على الأصعدة كافَّة، وغياب أيّ رؤية إستراتيجية قريبة أو بعيدة المدى.
لكن الأزمة لم تقف عند حدّ الإخفاق الإداري خلال الفترة الانتقالية وما صاحبها من عثرات، بل امتدَّت إلى كارثةٍ أخلاقية وسياسية كبرى تمثَّلت في تحالف قادة المدنيين مجددًا مع الدعم السريع بعد اندلاع الحرب عبر “إعلان أديس أبابا”، ظنًّا منهم أن الكفّة حينها كانت راجحة للميليشيا، وأنهم بذلك يضمنون نصيبًا في السلطة إذا ما كانت الغلبة لحليفها. كانت هذه المراهنة السياسية قصيرة النظر، فخسروا معها ما تبقَّى لهم من تعاطفٍ جماهيري، وخاصةً بعد أن تكشَّفت فظائع الحرب، وانقلب المزاج العام جذريًا ضدَّ الدعم السريع.
ولا يقلّ خطرًا عن كلّ ما ذُكِر ارتهانُ القادة المدنيين لخطابٍ سياسي متشدِّدٍ يكرِّس عداءً مطلقًا للإسلاميين، لا بوصفهم خصومًا في ميدان السياسة، بل على أساس أنهم جنسٌ منبوذٌ خارج شرعية الوطن. وقد تحوَّل هذا العداء في كثيرٍ من وجوهه إلى هوسٍ مرضي يطغى على أيّ وعيٍ بالمصلحة الوطنية، ويعطِّل ملكات التفكير البراغماتي، ويغلق نوافذ الحوار وأبواب التوافق الممكن. وقد أصابتهم، كما قال البروفيسور عبد الله علي إبراهيم “لوثة الكيزان”، فأعمتْ بصائرهم وشلَّت قدرتهم على ابتداع معايير ذاتية لقياس النجاح، حتى باتوا يصفَّّقون لأنفسهم كلَّما تعثَّر خصومهم، وكأنَّ فشل الآخرين هو معيار تفوُّقهم الوحيد، كما كتبتُ من قبل. والمفارقة الأشدُّ إيلامًا هي أن هؤلاء القادة لا يرون إمكانية للتفاهم مع الإسلاميين إلا من خلال توازن قوة السلاح، ولو كان ذلك عبر التحالف مع ميليشيا باطشة كالدعم السريع، لا من خلال التقاء المصالح العامة أو الاشتراك في قضايا الوطن، فيا لضيق الأفق، ويا لعجز الخيال!
ومن أبرز مظاهر التخبُّط في أداء القادة المدنيين أنهم عندما أدركوا عجزهم داخليًا، لاذوا بالخارج وأصبحوا لا يرون حلاً للأزمة إلا من خلال الإملاءات الإقليمية والدولية، والارتماء في أحضان الأجانب، وإن كان ذلك على حساب السيادة الوطنية، ظانّين خطأ أن مفتاح الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا من دهاليز العواصم الأجنبية، بدلاً من التعويل على رصيدٍ شعبي يضمن لهم البقاء في دائرة التأثير. وهكذا، تحت غطاء ما يُسمَّى بالواقعية السياسية، فضَّلوا الذي هو أدنى (الخارج والدعم السريع) على الذي هو خير (الجيش والجماهير).
إن التمسُّك باجترار خطابٍ إنشائي أجوف وشعاراتٍ تجاوزتها اللحظة دليلٌ على عجزٍ سياسي لا يليق بقوى كانت في يومٍ ما تطالب بالتغيير الجذري. والمؤسف أن هذا الجمود لا يعود إلى حساباتٍ سياسية خاطئة فحسب، بل ينطلق أيضًا من ذهنيةٍ استعلائية متجذّرة لدى كثيرٍ من القادة المدنيين تجعلهم يتوهَّمون أنهم دون سواهم يملكون الحقيقة، وأن الباطل لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم، وعلى هذا الأساس فإنهم يتعاملون مع الشعب بوصفه قاصرًا لا يميّز مصلحته. هي وصايةٌ فكرية لا تقلّ خطرًا عن وصاية العسكر، وتُقصي الجماهير من آليّات تحديد المسار رغم أن هذه الجماهير هي التي دفعت وحدها أثمان الدماء والانهيار والتهجير، وهي التي دفعت بهم إلى واجهة السلطة بعد الثورة.
من الحكمة أن يغادر القادة المدنيون قوقعة التحجُّر ومربع العناد، ويتهيَّأوا لمراجعة النفس، ويعيدوا تقييم مواقفهم بعد أن أثبتت التجربة، مرَّةً تلو الأخرى، أن الطريق الذي يسلكونه لا يؤدّي سوى إلى الخسران. ومن العقل أن يعودوا إلى سابق عهدهم ويتذكَّروا أن السياسة ليست نصًا مقدَّسًا، بل هي فنّ التكيُّف والمرونة والبحث عن الممكن ضمن المتاح، وخاصةً بعد تغيُّر موازين القوى، وتحوُّل المزاج الشعبي، وتبدُّل نظرة كثيرٍ من أبناء الوطن للإسلاميين، لا عبر منابر الخطابة والشعارات، بل من خلال وقوفهم مع الجيش وترجيح كفَّته في معركته المصيرية ضدَّ الدعم السريع، وإخراج القوات الغاصبة من وسط البلاد، وعودة آلاف النازحين إلى ديارهم في المناطق التي عاث فيها الجنجويد فسادًا وقتلاً واغتصابًا وتشريدًا. وليعلمْ القادة المدنيون، الذين يبدو أن العزَّة ما زالت تأخذهم بالإثم، أن مكابرتهم لن تمضي بهم إلا في دروبٍ مسدودة ستزيدهم بُعدًا عن نبض الشارع، وتُعمّق غربتهم عن وجدان الجماهير، إنْ كانوا يعقلون.

